للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَضَى وَعَلَى تَوَقُّعِهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَتَقُولُ: وَعَدَنِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَمَّا يَفْعَلْ. تُرِيدُ وَلَمْ يَفْعَلْ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ فِعْلَهُ " اهـ. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي إِيثَارِ ذِكْرِ الْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ هِيَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ أُخْرَى فِي الْبَالِ وَهِيَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ بِنَفْيِ عِلْمِ اللهِ بِهِ عِبَارَةٌ عَنْ دَعْوَى مَقْرُونَةٍ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ اللَّذَيْنِ هُمَا وَسِيلَةٌ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ لَمَّا يَقَعْ مِنْكُمْ، أَيْ لَمْ يَقَعْ إِلَى الْآنِ مِنْ مَجْمُوعِكُمْ أَوْ أَكْثَرِكُمْ بِحَيْثُ صَارَ يُعَدُّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَّةِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُخَالِفُوا وَلَمْ يَنْهَزِمُوا، إِذْ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا يَعْلَمْهُ فَهُوَ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطْعًا، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مِثْلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ [٢: ٢١٤] إِلَخْ.

أَيْ وَإِلَى الْآنِ لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَالِهِمْ وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ حَالُهُمْ تِلْكَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ، وَوَجْهُ التَّأْيِيدِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَاكَ هُوَ الْعَمَلُ وَالْحَالُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ.

ثُمَّ إِنْ يُوَافِقْ أَحَدَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّوَاتِ وَصْفُهَا، فَالْمَعْنَى هُنَاكَ وَلِيَعْلَمَ اللهُ إِيمَانَ الَّذِينَ آمَنُوا - وَهُنَا - وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ جِهَادَ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَصَبْرَ الصَّابِرِينَ، أَيْ وَاقِعَيْنِ ثَابِتَيْنِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ - كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي وَجْهٍ آخَرَ - وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ جَمِيعًا وَلَمَّا يُمَيِّزِ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَالْجِهَادُ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ وَيَصْبِرْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ الْجِهَادَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ - وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِي مُكَافَحَةِ الشَّدَائِدِ - وَمِنْهُ جِهَادُ النَّفْسِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مُجَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ لَا سِيَّمَا فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَجِهَادَهُ بِمَالِهِ، وَمَا

يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْبَاطِلِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَلِلنَّاسِ عَلَيْكَ حَقًّا، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْحُقُوقِ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ جِهَادِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا، وَرُبَّمَا يَفْضُلُ بَعْضُ جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَ فَكُرَةً صَالِحَةً فِي النَّاسِ أَوْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى خَيْرِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ أَوْ مُقَاوَمَةِ بِدْعَةٍ أَوِ النُّهُوضِ بِمَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَيُؤْذِيهِ إِيذَاءً قَلَّمَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَنَاهِيكَ بِالتَّصَدِّي لِإِصْلَاحِ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَعَادَاتِهِمْ، وَمَا الْخَاصَّةُ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَّا أَصْعَبُ مِرَاسًا مِنَ الْعَامَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>