للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ مَعْنَى أَمْ وَلَمَّا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَعْلَمَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ " أَنْ " عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ أَيْ لَا يَكُنْ أَكْلُ السَّمَكِ وَشُرْبُ اللَّبَنِ مَعًا، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ.

بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْفَوْزَ وَالظَّفَرَ فِي الدُّنْيَا وَدُخُولَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونَانِ بِالْأَمَانِي وَالْغُرُورِ، وَلَا يُنَالَانِ بِالْمُحَابَاةِ وَالْكَيْلِ الْجُزَافِ، بَلْ بِالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَيَّامِ وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَاتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ - وَبَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَدَعْوَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الْجَزَاءُ بِالنَّصْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِهِمَا بِحَسَبِ عِلْمِ اللهِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ لَا بِحَسَبِ ظَنِّ النَّاسِ وَشُعُورِهِمْ - بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ يَظْهَرُ لَهُمْ بِهِ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ إِلَخْ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَيَتَعَلَّمُونَ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَغْتَرُّونَ بِشُعُورِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَقَالَ:

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى أَلَا يَخْرُجَ لِلْمُشْرِكِينَ بَلْ يَسْتَعِدُّ لِمُدَافَعَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حَيْثُ عَسْكَرَ الْمُشْرِكُونَ

وَمُنَاجَزَتَهُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّ الشُّبَّانَ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ ; لِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِتَابٌ لِرِجَالٍ غَابُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ أَنْ يَلْقَوْهُ فَيُصِيبُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى فَعَاتَبَهُمُ اللهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَقُولُونَ: لَئِنْ لَقِينَا الْعَدُوَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ، فَابْتُلُوا بِذَلِكَ فَلَا وَاللهِ مَا كُلُّهُمْ صَدَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ الْقِتَالَ كَثِيرُونَ.

قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَظْهَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَعَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَمْتَحِنُونَ قُلُوبَهُمْ ; وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ أَوِ الْمَوْتَ فِي الْقِتَالِ لِيَنَالُوا مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ لَهُمْ هَذَا التَّمَنِّيَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>