مَصَالِحُهَا بِهِ رِجَالًا كَثِيرِينَ، فَلَا تَفْقِدُ مُعَلِّمًا وَلَا مُرْشِدًا وَلَا حَاكِمًا وَلَا قَائِدًا وَلَا رَئِيسًا وَلَا زَعِيمًا إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيُؤَدِّي لَهَا مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ، فَهِيَ لَا تَحْصُرُ الِاسْتِعْدَادَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَقْصُرُ الْقِيَامَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى نَابِغٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّابِغِينَ، وَلَا يَتَجَرَّأُ فِيهَا حَاكِمٌ
وَلَا زَعِيمٌ عَلَى احْتِكَارِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ تَتَسَابَقُ فِيهَا الْهِمَمُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ، وَيَنَالَ مِنْهُ الْعَامِلُ بِقَدْرِ هِمَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَتَأْيِيدِ التَّوْفِيقِ لَهُ، فَأَيْنَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْيَوْمَ؟ .
بَعْدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - قَاعِدَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى التَّحَقُّقِ بِالْعُلُومِ وَالنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ دُونَ الِاتِّكَالِ عَلَى أَفْرَادِ الرِّجَالِ - هَدَانَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ إِلَى قَاعِدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ لَوْمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِذْ بَلَغَهُمْ قَتْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمَا كَانَ قَتْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْدَهَشَ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِ كَأَنَّهُمْ بِسَبَبِ زِلْزَالِهِمْ وَزَعْزَعَةِ عَقَائِدِهِمْ قَدْ جَعَلُوا مَوْتَهُ جِنَايَةً مِنْهُ، فَأَذَاقَهُمْ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مَرَارَةَ خَطَئِهِمْ وَأَرَاهُمْ بِهَا قُبْحَ جَهْلِهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ - أَيْ لَا إِلَى نَفْسِهِ - فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَوْتُ يَقَعُ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ لَكَانَ الِانْقِلَابُ صَوَابًا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْتُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ سُلْطَانٌ يَقْهَرُهُ وَيُوقِعُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا بِالْكُرْهِ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لِزَلْزَلَةِ ثِقَتِكُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ حَيًّا بَاقِيًا عَلِيمًا حَكِيمًا.
قَالَ: وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَادَامَ مَحْيَانَا وَمَمَاتُنَا بِيَدِ اللهِ فَلَا مَحَلَّ لِلْجُبْنِ وَالْخَوْفِ، وَلَا عُذْرَ فِي الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ، وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ يَمُوتُ وَلَا عَلَى حَقِّيَّتِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ تَمْثِيلًا، فَنَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي حَلِّهَا قَالَ:
" الْمَعْنَى أَنَّ مَوْتَ الْأَنْفُسِ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ فِعْلٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لَهُ فِيهِ تَمْثِيلًا، وَلِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَفْسًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ. وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ خَاضَ الْمَهَالِكَ، وَاقْتَحَمَ الْمَعَارِكَ. (الثَّانِي) ذِكْرُ مَا صَنَعَ اللهُ بِرَسُولِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ لَهُ نُهْزَةً
لِلْمُخْتَلِسِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ وَتَأْخِيرِ الْأَجَلِ " انْتَهَى قَوْلُ الْكَشَّافِ.
وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: " فِي الْجُمْلَةِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا حَذَرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute