عَنِ الشَّيْخِ الضَّعِيفِ، وَلِكُلِّ عُمْرٍ أَجَلٌ وَلِكُلِّ أَجَلٍ قَدَرٌ، وَالْأَقْدَارُ هِيَ السُّنَنُ الَّتِي بِهَا يَقُومُ النِّظَامُ، وَالْحِكَمُ فِيهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنْ خَفِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ.
هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَإِنَّنَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ صَفْوَةَ مَا قَالُوهُ ثُمَّ نُبَيِّنُ الْقَاعِدَةَ. قَالُوا: إِنَّهَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الْغَنَائِمُ يَوْمَ أُحُدٍ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلُزُومِهِ. وَإِنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ حَظَّ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِهَا، وَمَنْ قَصَدَ الْآخِرَةَ أَعْطَاهُ اللهُ حَظًّا مِنْ ثَوَابِهَا. وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا فِي مَعْنَى حَدِيثٍ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى وَفِيهَا وَجْهَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِمَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ لِنَيْلِ ثَوَابِ الدُّنْيَا سُنَنًا وَلِنَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ سُنَنًا، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَنٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَصَلَ إِلَيْهَا ; فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدِ اسْتَظْهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فَلِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِعَمَلِهِمُ الدُّنْيَا وَأَخَذُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنْ حَيْثُ قَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. (والْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَقُولُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ ضَعُفُوا وَفَشِلُوا
وَانْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ: مَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ بِعَمَلِكُمْ هَذَا؟ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَاللهُ لَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ، وَمَا عَلَيْكُمْ إِلَّا أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى خَيْرٍ تَرَوْنَ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْآخِرَةِ. فَالْمَسْأَلَةُ مَعَكُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَإِرَادَةِ الْآخِرَةِ، كُلٌّ يُرِيدُ أَمْرًا وَلِكُلِّ أَمْرٍ سُنَنٌ تُتَّبَعُ، وَلِكُلِّ دَارٍ طَرِيقٌ تُسْلَكُ.
أَقُولُ: وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي مِمَّا أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ [٤٢: ٢٠] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْبَحْثِ نَظِيرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [٢: ٢٠٠] إِلَخْ. وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ عَمَلَهَا فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَأَنَّ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْمَرْءُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ وَيَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ وَيُرِيدُ بِحَسَبِ سَعَةِ مَعْرِفَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِهِ، وَلَهُ مَا يُرِيدُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ لِنِظَامِ هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ تَفْصِيلٌ وَتَقْيِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute