وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ الَّتِي عَاشَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَبْدَأَ دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ سَيَنْمُو وَيَزِيدُ وَأَنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ لِأُمَّتِهِ الْمَمَالِكَ، وَيُخْضِعُ لَهَا الْأُمَمَ وَقَدْ بَشَّرَهَا بِذَلِكَ. فَكُلُّ هَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ وَضْعِ قَاعِدَةٍ لِلشُّورَى تَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي الْعَصْرِ الَّذِي يَتْلُو عَصْرَهُ إِذْ تُفْتَحُ الْمَمَالِكُ الْوَاسِعَةُ وَتَدْخُلُ الشُّعُوبُ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ فِي سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقَوَاعِدُ الْمُوَافِقَةُ لِذَلِكَ الزَّمَنِ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَنٍ وَالْمُنْطَبِقَةُ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي سَذَاجَتِهِمْ مُنْطَبِقَةً عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ الْأَحْكَمَ أَنْ يَتْرُكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضْعَ قَوَاعِدِ الشُّورَى لِلْأُمَّةِ تَضَعُ مِنْهَا فِي كُلِّ حَالٍ مَا يَلِيقُ بِهَا بِالشُّورَى.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ وَضَعَ قَوَاعِدَ مُؤَقَّتَةً لِلشُّورَى بِحَسَبِ حَاجَةِ ذَلِكَ الزَّمَنِ لَاتَّخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ دِينًا وَحَاوَلُوا الْعَمَلَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا هِيَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابَةُ فِي اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ حَاكِمًا: رَضِيَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اتَّخَذُوا كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا دِينًا مَعَ قَوْلِهِ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلِهِ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ الْمَسْأَلَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ شُعُورِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ وَضَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمَّةِ وَإِنْ أَجَازَ لَهَا تَغْيِيرَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ
أَجَازَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَهْذِيبًا لَنَا حَتَّى لَا يَصْعُبَ عَلَيْنَا الرُّجُوعُ عَنْ آرَائِنَا، وَرَأْيُهُ هُوَ الرَّأْيُ الْأَعْلَى فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَرِيبٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَالْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُهُ بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ، وَلَوْ وَضَعَهَا بِمُشَاوَرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَرَّرَ فِيهَا رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ كَانَ خَطَأً وَمُخَالِفًا لِرَأْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يَرْضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْكُمَ أَمْثَالُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَمَنْ دُونَهُمْ - كَأَكْثَرِ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ - فِي أُصُولِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقَوَاعِدِهَا؟ أَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْأُمَّةِ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا يُؤَهِّلُهَا لَهُ اسْتِعْدَادُهَا هُوَ الْأَحْكَمَ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute