للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَلَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ كُنْهُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ كَافٍ لِوَضْعِ قَانُونٍ كَافِلٍ لِقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ عُمَرُ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) خَوْفَ الْخِلَافِ الْمُهْلِكِ لِلْأُمَّةِ ; وَصَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إِلَى مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ اسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَهْدِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا عَلِمَ رِضَاهُمْ عَهِدَ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مَجَالٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَوْ كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُسْتَعِدَّةٌ لِإِقَامَةِ الشُّورَى عَلَى وَجْهِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، لَتَرَكَ لَهَا الْأَمْرَ، وَلَمْ يُحَاوِلْ جَمْعَ كَلِمَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ هُوَ الْأَصْلَحَ حَتَّى يَمُوتَ آمِنًا عَلَيْهَا مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ.

يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالْعَهْدِ لَا بِالشُّورَى الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَذَا الْعَهْدُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَلَا مُخَصِّصًا وَلَا مُقَيِّدًا لَهُ، فَكَيْفَ عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّخَذَهُ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً؟ إِذَا أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ شِيعِيٌّ أَوْ غَيْرُ شِيعِيٍّ مِنَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ يُجِيبُهُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِهِ: إِنَّهُ رَأْيٌ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشِّيعَةَ وَالْمُسْتَقِلِّينَ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُقْنِعُهُمْ هَذَا الْجَوَابُ، فَهُمْ يُنَازِعُونَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ

مَعَ النَّصِّ وَكَوْنِهِ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقُومُ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهَا، وَيَقُولُونَ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ: كَيْفَ أَقْدَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ وَلَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ إِنَّمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؟

وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالشُّورَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشُّورَى حَصَلَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَإِنَّمَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْأُمَّةِ فِتْنَةَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَاوَرَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ; فَرَأَى الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى أَنَّ أَمْثَلَهُمْ عُمَرُ، وَرَأَى بَعْضَهُمْ يَخَافُ مِنْ شِدَّتِهِ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: " إِنَّهُ يَرَانِي كَثِيرَ اللِّينِ فَيَشْتَدُّ " أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجْمُوعِ سِيرَتِهِمَا الِاعْتِدَالُ أَوْ مَا هَذَا مَغْزَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ تَكَلَّفَ صُعُودَ الْمِنْبَرِ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَقْنَعَ الْقَوْمَ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَتَوْكِيلٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَتَرْشِيحٍ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي جَعْلِهِ أَمِيرًا عَلَى مُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمُبَايَعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى الشُّورَى، وَلَكِنْ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الشُّورَى لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَاحِدٍ تَرْضَاهُ الْأُمَّةُ، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَشَاوُرٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَأَنْ جَعَلُوا ذَلِكَ بِالِانْتِخَابِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ فِي الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَمَا سَبَقَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْإِقْنَاعِ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ أَغْنَى عَنِ الْمُشَاوَرَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مُبَايَعَتِهِ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ بَعْدَ شُورَى أَوْ بِسَبَبِ الشُّورَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>