الْغِلُّ: لِلْحِقْدِ، وَالْغَلِيلُ: لِحَرَارَةِ الْعَطَشِ، وَالْغِلَالَةُ: لِلشِّعَارِ. أَقُولُ: وَتَغَلْغَلَ فِي الشَّيْءِ دَخَلَ فِيهِ وَاخْتَفَى فِي بَاطِنِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ سِيرَتِهِ أَنْ يَغُلَّ ; لِأَنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْغُلُولِ فَهُوَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ; أَيْ يَخُونَ فِي الْمَغْنَمِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا يُفِيدُهُ هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ - لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَعْوَى بِدَلِيلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنْهُمْ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: " أَنْ يُغَلَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ أَغْلَلْتُهُ بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ
غَالًّا ; أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ أَنْ يُوجَدَ غَالًّا، أَوْ بِمَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْغُلُولِ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِالْغُلُولِ، أَوْ مِنْ غَلَّ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَسْرِقُ مِنْ غَنِيمَتِهِ السَّارِقُونَ وَيَخُونُهُ الْعَامِلُونَ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْغُلَّ أَوِ الْغُلُولَ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ وَكِتْمَانُهُ عَنِ النَّاسِ لَا الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعُدُّهُ عَامًّا فِي كُلِّ غُلُولٍ أَوْ خَاصًّا بِالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ جِيءَ بِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا عُهِدَ فِي مُنَاسَبَاتِ الْقُرْآنِ، وَانْتِقَالُهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ لَهُ حِكْمَةٌ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا عَلَى مَنْ رَغِبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْرُكَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ مُنَاسَبَةِ كَوْنِ الْغُلِّ بِمَعْنَى الْكِتْمَانِ وَإِخْفَاءِ بَعْضِ التَّنْزِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِمُعَاتَبَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي أُحُدٍ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى مَا قَصَّرُوا، وَذَلِكَ مِمَّا يَصْعُبُ تَبْلِيغُهُ عَادَةً ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ، وَمِنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا إِعْلَاءٌ لِشَأْنِهِمْ وَمُعَامَلَةٌ لَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّئُونِ، وَذَلِكَ مِمَّا عَهِدَ الْبَشَرُ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الرَّئِيسِ مِنْهُمْ إِبْلَاغُهُ لِلْمَرْءُوسِينَ وَيُزَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [٣: ١٢٨] عِنْدَمَا لَعَنَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ. كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ إِعْلَامًا لِلنَّاسِ بِمَا يَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ ذِكْرُهُ وَتَبْلِيغُهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ غُلٌّ أَوْ غُلُولٌ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا غَلَّ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يَغُلُّ بِهِ الْغَالُّ أَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهُ لِيُفْتَضَحَ بِهِ، وَيَكُونُ مَزِيدًا فِي عَذَابِهِ هُنَالِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute