للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَخِيَانَةٍ خَفِيَّةٍ يَعْلَمُهُ اللهُ - تَعَالَى - مَهْمَا خَفِيَ، وَيُظْهِرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْغَالِّ حَتَّى يَعْرِفَهُ كَمَعْرِفَةِ مَنْ أَتَى بِالشَّيْءِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩: ٧، ٨] .

أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِالْأَعْمَالِ وَإِعْلَامِهِ الْعَامِلِينَ بِهَا يَوْمَ الْحِسَابِ.

قَالَ بَعْدَمَا مَرَّ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَالُّ بِمَا غَلَّ، كَمَا يَأْتِي كُلُّ عَامِلٍ بِمَا يَعْمَلُ، فَيَتَمَثَّلُ لَدَيْهِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْهِ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [٣: ٣٠] وَمِثْقَالُ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَرْئِيًّا مُبْصِرًا، بَعْدَ هَذَا تَنَالُ جَزَاءَ مَا كَسَبْتَ مُسْتَوْفًى تَامًّا لَا تُنْقَصُ مِنْهُ شَيْئًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨: ٤٩] .

ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي آخِرِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ أَيْ جَعَلَ مَا يُرْضِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِمَامًا لَهُ فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاتَّقَى الْغُلُولَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، حَتَّى زَكَتْ نَفْسُهُ وَارْتَقَتْ رُوحُهُ، فَوُفِّيَ جَزَاءَ الْحَسَنِ، وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ أَيِ انْتَهَى إِلَى مَبَاءَتِهِ فِي الْآخِرَةِ مُصَاحِبًا وَمُقْتَرِنًا بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِتَدْسِيَةِ نَفْسِهِ بِمَا خَفِيَ مِنَ الْخَطَايَا كَالسَّرِقَةِ وَالْغُلُولِ، وَتَدْنِيسِهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَإِهْمَالِ تَطْهِيرِهَا بِالْعِبَادَاتِ وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ذَلِكَ الْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَسَاءَ ذَلِكَ الْمُنْتَهَى الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا لَا تَسْتَوِي الظُّلْمَةُ وَالنُّورُ وَلَا الظِّلُّ

وَلَا الْحَرُورُ، وَقَدْ جَعَلَ الْخَيْرَ مُتْبَعًا لِلرِّضْوَانِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الرِّضْوَانِ أَعْلَامُ هِدَايَةٍ تُتَّبَعُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الشِّرِّيرِ ; لِأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ يَبْتَدِعُ وَلَا يَتَّبِعُ.

هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضْوَانَ اللهِ وَالَّذِينَ يَبُوءُونَ بِسَخَطِهِ دَرَجَاتٌ أَوْ ذَوُو دَرَجَاتٍ وَمَنَازِلَ عِنْدَ اللهِ، أَيْ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ فِيهِ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَمَا قَالَ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [٤٠: ١٥، ١٦] .

وَالَّذِي فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَرَجَاتٍ فِي حُكْمِ اللهِ وَبِحَسَبِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ التَّغَلُّبِ فَتَشْمَلُ الدَّرَكَاتِ، فَالدَّرَجَاتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>