وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّوْقِ، أَيْ سَيَجْعَلُ مَا بَخِلُوا بِهِ طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يُوبَقُونَ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا، وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَأْثُورِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْهُ وَلَا أَشَارَتْ إِلَى كَيْفِيَّتِهِ، فَإِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحٍ مَا بَيَّنَهُ اتُّبِعَ الْوَارِدُ بِقَدْرِهِ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِنْدَ مَنْ صَحَّ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ لِمَحْضِ الِاتِّبَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ تَبِعَةَ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ: طَوَّقَنِي الْأَمْرَ أَيْ أَلْزَمَنِي إِيَّاهُ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْبُخْلِ لِزَامٌ لَا مَرَدَّ لَهُ.
أَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّطْوِيقَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: مَنْ
آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ (ثُعْبَانٌ مَعْرُوفٌ) أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِلِهْزَمَتَيْهِ (أْي شِدْقَيْهِ) يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ فَيَلْزَمُهُ، أَوْ يُطَوِّقُهُ يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. هُنَاكَ رِوَايَاتٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَوْقًا مِنَ النَّارِ فِي عُنُقِ مَنْ يَبْخَلُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالتَّخْيِيلُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ نَحْوُ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ التَّمْثِيلِ، وَلَا التَّخْيِيلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَا يَقُولُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قَوْلُهُ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكِتْمَانِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: " سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَلِقَوْلِ مُجَاهِدٍ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ ظُهُورًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ ; أَيْ يُكَلَّفُونَ بَيَانَ مَا كَتَمُوا، فَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " وَطَوَّقْتُكَ الشَّيْءَ كَلَّفْتُكَهُ، وَطَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ قَوَّانِي، " وَذَكَرَ ذَلِكَ وَجْهًا فِي الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثٍ بِمَعْنَاهَا قَبْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَهُمْ: تَطْوِيقُهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَعْلِهِ طَوْقًا لَهُ: " وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مِنْ طَوْقِ التَّكْلِيفِ لَا مِنْ طَوْقِ التَّقْلِيدِ " أَقُولُ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ طَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ بِ " قَوَّانِي "، فَهُوَ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ، وَهِيَ إِحْدَى قُوَاهُ لَا مِنَ الطَّوْقِ، وَالْمُخْتَارُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا.
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنَّ لَهُ وَحْدَهُ - سُبْحَانَهُ - جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا يَتَوَارَثُهُ النَّاسُ، فَيُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي يَدٍ، وَلَا يُسَلَّمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى جَمِيعُ الْوَارِثِينَ وَالْمُوَرِّثِينَ، وَيَبْقَى الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ كُلَّ مَا يُورَثُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَدْ يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَالًا لِوَلَدِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute