للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَيَجْعَلُهُ اللهُ بِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ مَتَاعًا لِغَيْرِهِمْ، كَأَنْ يَمُوتُوا قَبْلَ وَالِدِهِمْ أَوْ يُضَيِّعُوا مَا جَمَعَهُ لَهُمْ بِالْإِسْرَافِ فِيهِ، وَيَبْقُونَ فُقَرَاءَ كَأَنَّهُ يَقُولُ:

مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْبَاخِلِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا يُفِيضُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ مُغْتَرِّينَ بِتَصَرُّفِهِمُ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَمِلْكِهِمْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، ذَاهِلِينَ عَنْ مَصْدَرِهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَنْ مَرْجِعِهِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَاحَ فِي خَاطِرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ، وَيَفْنَى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ وَارِثًا يَرِثُ مَا يَتَمَتَّعُ هُوَ بِهِ كَأَوْلَادِهِ وَذِي الْقُرْبَى ; فَكَأَنَّهُ يَبْقَى فِي يَدِهِ، فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتْرُكُهُ الْهَالِكُونَ، هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي أَعْطَى أُولَئِكَ الْهَالِكِينَ مَا كَانُوا بِهِ يَتَمَتَّعُونَ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْعِبَارَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ، وَجَاهٍ، وَقُوَّةٍ، وَعِلْمٍ فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَصَاحِبُهُ يَفْنَى وَيَزُولُ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْقَاءِ الْفَانِي مَا هُوَ فَانٍ مِثْلُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَيَبْذُلَهُ فِي وُجُوهِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ ; أَيْ فَهُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ خَلِيفَةً لِلَّهِ فِي إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَمُحْسِنًا لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا اسْتَخْلَفَهُ فِيهِ.

وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: " يَعْلَمُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ ; أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِ عَمَلِكُمْ، وَلَا مِمَّا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الصُّدُورُ مِنَ الْهَوَى فِيهِ وَالنِّيَّةِ فِي إِتْيَانِهِ، فَيُجْزَى كُلُّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ.

لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ الْمَدَارِسِ، فَوَجَدَ مِنْ يَهُودَ نَاسًا كَثِيرًا قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحُكَ يَا فِنْحَاصُ، اتَّقِ اللهَ، وَأَسْلِمْ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ فِنْحَاصُ: وَاللهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إِلَى اللهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا، وَيُعْطِينَاهُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا. فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللهِ، فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ

رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، زَعَمَ أَنَّ اللهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ، وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا

-

<<  <  ج: ص:  >  >>