أَوَّلِ السُّورَةِ - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَبْلَ قِصَّةِ أُحُدٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ شُئُونِهِمْ بَعْدَهَا، فَكَانَ مِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أُمِرُوا بِبَيَانِهِ، وَاسْتِبْدَالُ مَنْفَعَةٍ حَقِيرَةٍ بِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ إِلَّا بِآيَتَيْنِ قَدْ عُرِفَتْ حِكْمَةُ وَضْعِهِمَا فِي
مَوْضِعِهِمَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ عَنْهَا أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ، وَصِدْقِ نَبُوَّتِهِ، وَرِسَالَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ الطَّعْنِ فِي نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا، وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا يُصَابُونَ بِهِ لِأَخْذِهِمْ بِالْحَقِّ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَطَّنَ عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ - لِيَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا - أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، إِذْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِبَيَانِ الْحَقِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا كَتَمْتُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَكُونُ وَعِيدُكُمْ كَوَعِيدِهِمْ قَالَ - تَعَالَى -:
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقَيِّدَ بِرَأْيِنَا مَا أَطْلَقَهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ أَيْ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ إِيجَابَ الْبَيَانِ أَوِ التَّبْيِينِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَالتَّدْرِيجِ، كَمَا يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَهَمَّ الْأُمُورِ بِالْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، فَيُقَالُ لَهُ: اللهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَقَرَءُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ حِكَايَةً لِلْمُخَاطَبَةِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ
بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ) لِأَنَّهُمْ غَائِبُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي الْآيَةِ ٨١ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ((رَاجِعْ ص٢٨٧ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) .
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِبَيَانِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute