وَعَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَتَبْيِينُهُ هُوَ أَنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ، وَلَا يُئَوِّلُوهُ، وَلَا يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وُضِعَ لِتَقْرِيرِهَا، وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ فِي فَهْمِهِ لَبْسٌ، وَلَا اضْطِرَابٌ. وَهَهُنَا أَمْرَانِ: الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ عَدَمِ الْبَيَانِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتْمَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ فِي التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْكِتْمَانِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْبَيَانِ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ إِظْهَارِ الْكِتَابِ فَلِمَاذَا عَكَسَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدَّمَ أَهَمَّ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتْمَانُ تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْبَسِيطَ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالدِّينِ، وَفِي الثَّانِي تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ أَهْوَنُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْفَرَ بِالْكِتَابِ يَوْمًا فَيَهْتَدِيَ بِهِ وَيَعْرِفَ الدِّينَ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ - وَهُوَ فَهْمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ - فَيَعْسُرُ زَوَالُهُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ ضَالًّا مَعَ وُجُودِ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ أَمَامَهُ.
قَالَ: وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَنْفُسِنَا، فَإِنَّ كِتَابَنَا - وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ - لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ فِي الدُّنْيَا حُفِظَ كَمَا حُفِظَ، وَنُقِلَ، وَنُشِرَ كَمَا نُشِرَ، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَهُمْ يَتْلُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُهُ فِي الشَّارِعِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَمُجْتَمَعَاتِ الْأَفْرَاحِ، وَالْأَحْزَانِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عَدَمُ الْكِتْمَانِ شَيْئًا ; فَإِنَّهُمْ فَقَدُوا هِدَايَتَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْحَرِفُونَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْقَابِضَ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْغِشَّ قَدْ عَمَّ وَطَمَّ، وَيَعْتَرِفُونَ بِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ، وَشُيُوعِ الْخِيَانَةِ إلخ. . إلخ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ التَّبْيِينِ.
قَالَ: وَلِهَذِهِ التَّعْمِيَةِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ أَسْبَابٌ أَهَمُّهَا مَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلُ - لَاسِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ - فَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ إِلَى
شِيَعٍ وَذَهَبَتْ فِي الْخِلَافِ مَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْكِتَابِ يَأْخُذُ مَا وَافَقَهُ مِنْهُ وَيُئَوِّلُ مَا خَالَفَهُ، وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَضِيَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ حَتَّى جَاءَتْ أَزْمِنَةٌ تَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ التَّحَاكُمَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَأْيِيدَ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ بِهِ، وَتَأْوِيلَ مَا عَدَاهُ (أَقُولُ: بَلْ وَصَلْنَا إِلَى زَمَنٍ يُحَرِّمُونَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا يَرَوْنَ فِيهِ لِلْقُرْآنِ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ، بَلْ كُلُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْجَسَدِ دُونَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ) ، حَتَّى صِرْنَا نَتَمَنَّى لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْخِلَافَاتُ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنَ بَتَاتًا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي اضْطِرَابٍ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى صَارُوا يَحْسَبُونَ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَحَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرَوْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute