فِي آثَارِ الْبَشَرِ مِمَّا يَطْعَنُ فِي تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نُكَلَّفُ تَصْدِيقَ تَارِيخِ الْيَهُودِ، وَإِنْ عَزَوْهُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ لَا ثِقَةَ عِنْدِنَا بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى.
قَالَ: نَحْنُ لَا نَحْتَجُّ عَلَى مَا وَرَاءَ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّنَا نَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْوَحْيِ لَا نَزِيدُ، وَلَا نَنْقُصُ كَمَا قُلْنَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَهُنَا أَمْرَ النَّفْسِ الَّتِي خُلِقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَجَاءَ بِهَا نَكِرَةً فَنَدَعُهَا عَلَى إِبْهَامِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ أَبًا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَى كِتَابِنَا كَمَا يَرِدُ عَلَى كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا حَمَلَ بَاحِثِيهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ.
وَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ [٧: ٢٦] لَا يُنَافِي هَذَا، وَلَا يُعَدُّ نَصًّا قَاطِعًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَبْنَائِهِ، إِذْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ
مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ: إِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوا النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هُنَا بِآدَمَ فَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَلَا مِنْ ظَاهِرِهَا بَلْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] الْآيَةَ. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَالْمُرَادُ: خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ إلخ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمُ. وَأَجَابَ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ هُوَ وَزَوْجُهُ بِالشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَوْجِيهُ كَوْنِ قِصَّةِ آدَمَ نَفْسِهَا مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الَّذِي حَمَلَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ آيَةَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ آدَمَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا آدَمُونَ كَثِيرُونَ، قَالَ فِي رُوحِ الْمَعَانِي: وَذَكَرَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ خَبَرًا طَوِيلًا نَقَلَ فِيهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ قَبْلَ أَبِينَا آدَمَ ثَلَاثِينَ آدَمَ بَيْنَ كُلِّ آدَمَ، وَآدَمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَقِيَتْ خَرَابًا بَعْدَهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ عُمِّرَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ خُلِقَ أَبُونَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى ابْنُ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنِ الصَّادِقِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرًا غَيْرَكُمْ، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ خَلَقَ أَلْفَ أَلْفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute