تَسَاءَلُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْحَلِفُ الَّذِي يُعْتَقَدُ وُجُوبُ الْبِرِّ بِهِ لَا مَا قُصِدَ بِهِ مَحْضُ التَّأْكِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَالتَّأْكِيدِ بِأَنَّ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ هُوَ قَسَمًا بِهَا، وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّؤَالَ بِاللهِ غَيْرُ الْقَسَمِ بِاللهِ، وَالسُّؤَالَ بِالرَّحِمِ غَيْرُ الْحَلِفِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَرَّرَ فِيهَا مَسْأَلَةَ التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ، فَقَالَ، وَأَجَادَ، وَحَقَّقَ كَعَادَتِهِ جَزَاهُ اللهُ عَنْ دِينِهِ، وَنَفْسِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إِذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ (فَهِيَ) لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ : لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لِأَبَرَّهُ وَقَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ، كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ "، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ (حَدِيثُ) أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَالْآخَرُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ. . .
" وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلُ كَذَا، فَإِنْ حَنِثَهُ، وَلَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يُجِبْ إِلَى سُؤَالِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ:
مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَقَدْ يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ، وَيَسْقِيهِمْ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.
" وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللهِ فَيَبَرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ " فَهَذَا سُؤَالُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِقْسَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ.
ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ سُئِلَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute