فَإِذَا قَالَ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ، وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إِجَابَةِ دُعَائِهِ ; لِهَذَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، أَيِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَالْقَبُولِ.
ثُمَّ قَالَ: " وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ أَسْأَلُكَ بِاللهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاللهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ، وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ، فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ "، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، فَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [٤٢: ٢٦] وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [٣: ١٩٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [٢٣: ١٠٩، ١١٠] وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ " أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - غَضِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ " فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنَ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إِجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ: " اللهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي "، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا نَوْعَانِ، فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ تَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute