وَطَمَعًا فِي الْجَاهِ الْكَاذِبِ (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فِي الدُّنْيَا، إِذَ لَمْ تُثْمِرْ لَهُمْ ثَمَرَةً حَقِيقِيَّةً، بَلْ خَسِرُوا وَخَابُوا بِإِهْمَالِهِمُ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ وَلَا تُحْفَظُ الْمَنَافِعُ إِلَّا بِهِ، وَإِسْنَادُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ عَرَبِيٌّ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ: هُوَ النَّمَاءُ فِي التَّجْرِ، وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُثْمِرَ الرِّبْحَ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ (كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَكُنْ نَمَاءٌ فِي تِجَارَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ - الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنَّ إِسْنَادَ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ وَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ - تَأْوِيلٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُنَافِيهَا، وَلَا زَالَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُزَيِّنُ الْبُلَغَاءُ بِهِ كَلَامَهُمْ، وَيُبَلِّغُونَ بِهِ مَا يَشَاءُونَ مِنْ تَفْخِيمِ مَعَانِيهِمْ) .
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ فَهْمِهِ، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا فِيهَا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِظُلُمَاتِ التَّقَالِيدِ وَضَلَالَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي زَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ وَلَا مَسَّ الرُّشْدُ قُلُوبَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُمْ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ قَطُّ فِي فَهْمِ
أَسْرَارِهِ وَاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهِ، وَلَا يَذْهَبْنَ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، ثُمَّ تَرَكُوا الْهُدَى لِلضَّلَالَةِ، فَيَتَنَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ آخِرِهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مُنِحَ الْهُدَى يَأْخُذُ بِهِ فَيَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَهَؤُلَاءِ حُمِّلُوهُ فَبَاعُوهُ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الِاشْتِرَاءِ، وَيُشْبِهُهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (٤١: ١٧) وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (الْهُدَى) بِالْإِمَالَةِ، أَيْ جَعْلِ مَدِّهَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَعَدَمُ الْإِمَالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْفُصْحَى، وَلَمَّا كَانَ يَعْسُرُ عَلَى لِسَانِ مَنِ اعْتَادَهَا تَرْكُهَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِيمَا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
أَقُولُ: الْمَثَلُ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمِثْلُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَثِيلُ كَالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ وَالشَّبِيهِ وَزْنًا وَمَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مِنْ مَثُلَ الشَّيْءُ مُثُولًا إِذَا انْتَصَبَ بَارِزًا فَهُوَ مَاثِلٌ، وَمَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ - صِفَتُهُ الَّتِي تُوَضِّحُهُ وَتَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا يُرَادُ بَيَانُهُ مِنْ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَبْلَغُهُ: تَمْثِيلُ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ بِالصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَعَكْسُهُ، وَمِنْهُ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ وَتُسَمَّى الْأَمْثَالَ السَّائِرَةَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَمِنْهُ مَا يُسَمِّيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute