الْبَيَانِيُّونَ الِاسْتِعَارَةَ التَّمْثِيلِيَّةَ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِ، وَالتَّمْثِيلُ: أَمْثَلُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَأَشَدُّهَا تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ وَإِقْنَاعًا لِلْعَقْلِ، قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (٢٩: ٤٣) وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ وَفَّاهُ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الْمُقْنِعِ إِلَّا إِمَامَهُمُ الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ فِي كِتَابِهِ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَهَاكَ مَا كُنْتُ كَتَبْتُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا، مُقْتَبِسًا مَعَانِيهِ مِنْ دُرُوسِ أُسْتَاذِنَا الْإِمَامِ:
هَذَا مَثَلٌ مِنْ مَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ: الَّذِينَ قَرَعَ الْقُرْآنُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِ أَنْ
قَفَّى عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي شَرِّ فِرْقَةٍ وَأَطْوَارِهِمْ بِضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي أَتَمِّ مَجَالِيهِ، وَتَأَثُّرُ النُّفُوسِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ، نَاهِيكَ بِمَا فِي التَّنَقُّلِ فِي الْأَسَالِيبِ مِنْ تَوْجِيهِ الذِّهْنِ إِلَى سَابِقِ الْقَوْلِ وَدَعْوَةِ الْفِكْرِ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا مَضَى مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ بَلَاءَ هَذَا الصِّنْفِ عَظِيمٌ، وَدَاءَهُ دَفِينٌ، وَعِلَاجَهُ مُتَعَسِّرٌ - لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَنِعْمَةُ الْعَافِيَةِ - لِمَا كَانَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَلَا مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُعْنَى بِشَأْنِهِ كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَزْيِيفِ رَأْيِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ.
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الصِّنْفِ فِي مَجْمُوعِهِ مَثَلَيْنِ، وَيُنْبِئَانِ بِانْقِسَامِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، خِلَافًا لِمَا فِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ فِي أَنَّ الْمَثَلَيْنِ لِفَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَمَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ.
(الْأَوَّلُ) : مَنْ آتَاهُمُ اللهُ دِينًا وَهِدَايَةً عَمِلَ بِهَا سَلَفُهُمْ فَجَنَوْا ثَمَرَهَا، وَصَلَحَ حَالُهُمْ بِهَا أَيَّامَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، آخِذِينَ بِإِرْشَادِ الْوَحْيِ، وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ سَلَفِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي حَقَائِقِ مَا جَاءَهُمْ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ عِنْدَ سَلَفِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَادَةٍ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا خُصُّوا بِهِ، أَوْ خَيْرًا سِيقَ إِلَيْهِمْ، لِظَاهِرِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ امْتَازُوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَمْ يُخَالِطْ سَرَائِرَهُمْ، وَلَمْ تَصْلُحْ بِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَأَخَذُوا بِتَقَالِيدَ وَعَادَاتٍ لَمْ تَدَعْ فِي نُفُوسِهِمْ مَجَالًا لِغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قَطُّ فِي كَوْنِهِمْ أَحْرَى بِالتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَوْجُودِ أَيْسَرُ مِنْ إِيجَادِ الْمَفْقُودِ، بَلْ لَمْ يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَ الْكِتَابِ الَّذِي اقْتَدَى مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا فِيهِ شُمُوسُ الْعِرْفَانِ وَنُجُومُ الْفُرْقَانِ، لِزَعْمِهِمْ: أَنَّ فَهْمَهُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، يُؤْخَذُ بِأَقْوَالِهِمْ مَا وَجَدُوا، وَبِكُتُبِهِمْ إِذَا فَقَدُوا.
فَمَثَلُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الصِّنْفِ الْمَخْذُولِ - فِي فَقْدِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ، وَحِرْمَانِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالْمَرَّةِ، وَانْطِمَاسِ الْآثَارِ دُونَهَا عِنْدَهُ - مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَخْ.
وَالْوَجْهُ فِي التَّمْثِيلِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِكِتَابٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ قَدْ طَلَبَ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ يَهْتَدِي بِهَا فِي الشُّبَهَاتِ، وَيَسْتَضِيئُ
بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الرِّيَبِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَيُبْصِرُ عَلَى ضَوْئِهَا مَا قَدْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ مُفْتَرِسَةِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ بِمَا أُودِعَتْهُ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَكَادَ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَمْشِي عَلَى هِدَايَةٍ وَسَدَادٍ هَجَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute