وَلِذَلِكَ قَالَ: نِحْلَةً فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَصِلَةِ الْقُرْبَى، وَتَوْثِيقِ عُرَى الْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ حَتْمٍ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَتَرَى عُرْفَ النَّاسِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْعَطَاءِ بَلْ يَشْفَعُهُ الزَّوْجُ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ.
أَقُولُ: الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِلْأَزْوَاجِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ الْيَتَامَى، وَغَيْرَ الْيَتَامَى، وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُعْطُوهُنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ مُهُورِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُنَّ، وَكَانَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُهَا وَيَأْخُذُ صَدَاقَهَا لِنَفْسِهِ دُونَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلَ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أُخْتَهُ فَلَا يُصِيبُ الْأُخْتَيْنِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ جُمْلَةً، فَالزَّوْجُ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا إِذَا هُوَ قَبَضَهُ مِنَ الزَّوْجِ بِاسْمِهَا إِلَّا أَنْ تَسْمَحَ هِيَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ بِرِضَاهَا، وَاخْتِيَارِهَا، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ إِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِإِعْطَائِكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ وَلَوْ كُلَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُ) لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهُ كُلِّهِ، وَلَا أَخْذُهُ إِنْ هِيَ وَهَبَتْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ اللَّيْثُ.
فَأَعْطَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا إِلْجَاءٍ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَا إِخْجَالٍ بِالْخِلَابَةِ وَالْخُدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ - فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، مِنْ هَنُوءِ الطَّعَامِ وَمَرُوئِهِ إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا غَصَصَ فِيهِ، وَلَا تَنْغِيصَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا تَجْمُلُ عَاقِبَتُهُ كَأَنْ يَسْهُلَ هَضْمُهُ، وَتَحْسُنَ تَغْذِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ - رَاجِعْ ص١٦٠ ج٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]- وَبِكَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهَا طَيِّبَةٌ بِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَمَلَهَا الْخَجَلُ أَوِ الْخَوْفُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ. وَعَلَامَاتُ الرِّضَا، وَطِيبِ النَّفْسِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الصَّالِحِينَ الْمُتَحَلَّوْنَ بِعُقُودِ السِّبَحِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ شِفَاهَهُمْ وَيَلُوكُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ ذِكْرًا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَيْنَهَا، أَوْ أَجَزْنَ أَخْذَهَا بِالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوِ الْخَجَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُنَّ أَعْطَيْنَنَا، وَلَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [٤: ٢٠] فَإِذَا شَدَّدَ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي طَوْرِ الْمُفَارَقَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَوْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ؟ .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute