وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَدَنِيَّةً إِسْلَامِيَّةً مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا خَالَفَهُ جَمَاهِيرُنَا فِي أَكْثَرِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى مَدَنِيَّتُهُمْ مَدَنِيَّةً مَسِيحِيَّةً مَعَ بِنَاءِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَبُغْضِ الْمَالِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَهُمْ لَهَا مُخَالِفُونَ، وَعَنْهَا مُعْرِضُونَ! ! !
أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ!
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا ... أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا تُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ
حَتَّى صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ جَمِيعِ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِدْرَارُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ عَلَى عُلَمَاءِ الدِّينِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ " الصَّالِحِينَ "، فَهُمْ يَأْكُلُونَ مَالَ الْأُمَّةِ بِدِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهَا بِقَبُولِهِ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ
الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute