وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٥: ٦٧] فَهَذِهِ الْآيَةُ شَارِحَةٌ لِلَّفْظِ قِيَامًا فِي الْآيَةِ
الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ نَهَانَا الْقُرْآنُ عَنِ التَّبْذِيرِ حَتَّى فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ الْمُؤَكَّدِ وَجَعَلَ الْمُبَذِّرَ كَالشَّيْطَانِ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُتَوَسِّعِ فِي النَّفَقَةِ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ كَمَا فِي آيَاتِ ٢٦ - ٢٩ مِنَ السُّورَةِ ١٧ (الْإِسْرَاءِ) .
وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ "، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ "، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: " مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ " إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ "، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا.
فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟
وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى " (١٩: ٢٣) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [٢٤] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ "، وَيَقُولَ كَمَا فِي
(٦: ٢٤) مِنْهُ: " لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [٢٥] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ " إلخ. وَفِي (١٠: ٩) مِنْهُ: " لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " - مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute