للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالصَّلَاحُ فِي الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِمَعْنَى الرُّشْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَقْلُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ ; لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَحَوْزَ مَا فِي يَدِهِ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينِهِ - إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ.

وَتَنْكِيرُ الرُّشْدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَهُوَ لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنَ الرُّشْدِ يُنَافِي الْإِسْرَافَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَا.

وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى مُسْرِفِينَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهَا، وَلَا مُبَادِرِينَ كِبَرَهُمْ إِلَيْهَا، أَيْ مُسَابِقِينَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَتَكُونُوا طَالِبِينَ لِأَكْلِ هَذَا الْمَالِ كَمَا يَطْلُبُهُ كِبَرُ سِنِّ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي يَظْفَرُ بِهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا هُوَ كَالْأَمْرِ قَبْلَهُ تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ النَّاهِيَةِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ قَيَّدَ النَّهْيَ هُنَا بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ صَرْفُ مَالِ الْيَتِيمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَلَوْ عَلَى الْيَتِيمِ نَفْسِهِ. وَسَمَّى هَذَا أَكْلًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ، وَالْأَكْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِضَاعَةِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ ضَمَّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ لَا يُسَمَّى إِسْرَافًا، وَقَيَّدَهُ أَيْضًا بِالْبِدَارِ وَالْمُسَابَقَةِ لِكِبَرِ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الضَّعِيفَ الذِّمَّةِ يَسْتَعْجِلُ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ لِئَلَّا تَفُوتَهُ إِذَا كَبِرَ الْيَتِيمُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَهَاتَانِ الْحَالَانِ: الْإِسْرَافُ وَبِدَارٌ وَمُسَابَقَةُ كِبَرِ الْيَتِيمِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ، هُمَا مِنْ مَوَاضِعِ الضَّعْفِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمَا، وَنَهَى عَنْهُمَا لِيُرَاقِبَ الْوَلِيُّ رَبَّهُ فِيهِمَا إِذَا عَرَضَتَا لَهُ.

أَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمَا يَرَى أَنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَمُخَادَعَةُ النَّفْسِ لِلْإِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَخَفَاءِ وِجْهِ مَنْفَعَةِ الْوَلِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا كَانَ مَوْضِعَ خِلَافٍ، وَخَفَاءٍ لَا يُنْكِرُهُ، وَلَا يَنْتَقِدُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ يَسْهُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ مَا فَعَلَهُ الْوَلِيُّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وُضِعَ فِي مَحَلِّهِ، وَعُمِلَ فِي وَقْتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ تَغُشُّ الْوَلِيَّ فِيهِ نَفْسُهُ حَتَّى يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْبَاطِنِ، وَيَكْتَفِي بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ أَحَدٌ مِرَاءً ظَاهِرًا تَتَّضِحُ فِيهِ خِيَانَتُهُ ; فَلِأَجْلِ هَذَا، وَذَاكَ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الْأَلْبَابِ.

أَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مُبَادَرَةٍ خَوْفَ أَخْذِهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِنِ - فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَلْيَعِفَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لِيُطَالِبْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْهَا عَلَى الْعَفِّ عَنْهُ نَزَاهَةً وَشَرَفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>