للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَفْسٍ. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَصْرِفُ بَعْضَ وَقْتِهِ، أَوْ كُلَّهُ فِي تَثْمِيرِهِ، وَحِفْظِهِ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَلَا يَسْتَنْكِرُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ، وَالْفَضْلِ، وَلَا يَعُدُّونَهُ طَمَعًا، وَلَا خِيَانَةً.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ بِهِ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ فَقِيلَ: هُوَ الْقَرْضُ يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَعِبَارَةُ الْأَخِيرِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَسْتَقْرِضْ مِنْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ ; وَهُوَ يَعْنِي وَلِيَّهُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ

فِي الْأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَدُكَ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ. أَيْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَالِ كَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ كَقَدْرِ خِدْمَتِهِ وَقَدْرِ عَمَلِهِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقَرْضُ وَالْأُجْرَةُ، وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا غَوْصٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَعَاتِيهِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَكْلِ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَدْ يَظْهَرُ فِي الْأُجْرَةِ.

وَأَقُولُ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنِّي وَلِيُّ يَتِيمٍ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَتِيمَ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْوَلِيِّ كَوَلَدِهِ وَالْخَيْرُ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ الْوَلِيُّ هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْمُؤَاكَلَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَنِيًّا، وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي مَالِهِ كَانَ الْيَتِيمُ هُوَ الرَّابِحُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصْرَفُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>