للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْآيَةِ مِنَ السَّلَفِ أَوْجَبُوا رِزْقَ مَنْ حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَتْهُمُ الْآيَةُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا قِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا يُرْزَقُونَ مِنْ مَالِ الْكَبِيرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلِيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبِينَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَلِّلَةً لِلْأَمْرِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي تِلْكَ مُتَّصِلَةً بِهَا مُبَاشَرَةً، ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى بَعْضُ حَاضِرِي الْقِسْمَةِ عَنْ رِزْقِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهَا. وَهَذَا يَكْثُرُ فِي النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوُجَهَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُوهِمُ الْغَيْرَةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحُولُونَ دُونَ عَمَلِ الْبِرِّ بِأَنْ يَخَافُوا اللهَ أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَثَةً ضُعَفَاءَ يَحْتَاجُونَ مَا يَحْتَاجُهُ حَاضِرُو الْقِسْمَةِ وَطَالِبُو الْبِرِّ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَيُعَامَلُوا بِالْحِرْمَانِ وَالْقَسْوَةِ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّونَ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمْ إِذَا تَرَكُوهُمْ ضِعَافًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى الْيَتَامَى، فَهُوَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ بِابْتِلَائِهِمْ، وَاخْتِبَارِهِمْ بِالْعَمَلِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُمْ أَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ لَهُمْ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْيَتِيمَ يَجْرَحُهُ أَقَلُّ قَوْلٍ يُهِينُ وَلَاسِيَّمَا ذِكْرُ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ بِسُوءٍ. وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا حَافِظِينَ لِلْأَمْوَالِ مُحْسِنِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ يَتِيمٌ فِي بَيْتٍ إِلَّا وَيُمْتَهَنُ وَيُقْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَذِكْرِ وَالِدَيْهِ بِمَا يَشِينُهُمَا ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّأْكِيدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْيَتَامَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

أَقُولُ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْهَا - لِاخْتِيَارِهِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قِسْمَةِ الْوَصَايَا - أَنَّهَا فِي الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مُوصِيًا يُوصِي فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَأْمُرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَخَافُوا عَلَى ذُرِّيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَا يَخَافُونَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا فَلَا يَقُولُوا فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرَّ بِذُرِّيَّةِ الْمُوصِي كَالتَّرْغِيبِ فِي تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِلْغُرَبَاءِ، بَلْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا بِأَنْ يُرَغِّبُوهُ فِيمَا يَرْضَوْنَ مِثْلَهُ لِأَنْفُسِهِمْ،

وَلِذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي وُلَاةِ الْيَتَامَى يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ لَوْ تَرَكُوهُمْ وَمَاتُوا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " يَعْنِي بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَمُوتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ (أَيِ الْفَقْرَ) وَالضَّيْعَةَ، وَيَخَافُ بَعْدَهُ أَلَّا يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلِيَ مِثْلَ ذُرِّيَّتِهِ ضِعَافًا يَتَامَى فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ إِسْرَافًا وَبِدَارًا خَشْيَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَهُمْ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>