للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ كَمَا بَيَّنَ هُنَاكَ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْوَرَثَةِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ مَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ رِزْقِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مُؤَكِّدًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ.

وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي أَمْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِبُّ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالثُّلُثِ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَقَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " أَيْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ، وَلْيَقُولُوا فِي تَقْرِيرِ الْوَصِيَّةِ قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ قَرِيبًا مِنَ الْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ، بَعِيدًا مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْمَضَرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَشْمَلَ كُلَّ مَا ذُكِرَ.

وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: لِيَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ - أَوْ لِيَخْشَ الْعَاقِبَةَ، أَوِ اللهَ - الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا أَنْ يُسِيءَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيُهِينُوهُمْ فَلَا يَقُولُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِذُرِّيَّةِ أَحَدٍ، بَلْ لِيَقُولُوا قَوْلًا مُحْكَمًا يَسُدُّ مَنَافِذَ الضَّرَرِ فَكَمَا يُدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أَيْ ظَالِمِينَ فِي أَكْلِهَا أَوْ أَكْلًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحَقِّ لَا أَكْلًا بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوِ اقْتِرَاضًا، أَوْ تَقْدِيرًا لِأُجْرَةِ الْعَمَلِ كَمَا أَذِنَ اللهُ لِلْفَقِيرِ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ، وَكَمَا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ بِدَلَائِلَ

أُخْرَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، فَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الظَّرْفِيَّةِ كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَظْرُوفُ مَالِئًا لِلظَّرْفِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْبُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْوَاقِعِ بِكَمَالِ هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨: ١١] .

نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ; لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: " فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>