للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِقَوْلِهِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ أَيْ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ

لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ - سُبْحَانَهُ - لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ.

ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً ; وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

وَصِيَّةً مِنَ اللهِ أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ حَلِيمٌ لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ

- تَعَالَى - فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا "، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>