للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [٦٧، ٦٨] مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [٨٠: ١] إلخ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا، وَلَا قَضَاءً، وَلَا سِيَاسَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ

الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ.

أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُرْتَابِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ: أَنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ، وَالْآدَابِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ، وَتَنْفَعُ النَّاسَ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ الدِّينِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَهُ بَلْ يَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لَجَعْلِ الْأُمَمِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي آدَابِهِمْ، وَارْتِقَائِهِمْ.

وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هِدَايَةِ الْجَمَاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ بِارْتِقَائِهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَوِيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنَا التَّارِيخُ أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَنِيَّاتِ الَّتِي وَعَاهَا وَعَرَفَهَا إِلَّا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ حَتَّى مَدَنِيَّاتُ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْكَلَدَانِيِّينَ، وَالْيُونَانِيِّينَ، وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِهِدَايَتِهَا، فَنَحْنُ بِهَذَا نَرَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةَ كَانَ لَهَا أَصْلٌ إِلَهِيٌّ، ثُمَّ سَرَتِ الْوَثَنِيَّةُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا سَرَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي بَقِيَ أَصْلُهَا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَلَيْسَ لِلْبَشَرِ دِيَانَةٌ يَحْفَظُ التَّارِيخُ أَصْلَهَا حِفْظًا تَامًّا إِلَّا الدِّيَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ دَوَّنَ فِي أَسْفَارِهِ كَيْفِيَّةَ سَرَيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّأْوِيلُ أَوِ الْجَهْلُ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>