للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ غَيْرَ قَلِيلٍ مِمَّا يُخَالِفُونَ بِهِ جِيرَانَهُمْ كَجَوَازِ أَكْلِ لَحْمِ الْبَقَرِ فِي الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَيْفِيَّةِ الزَّوَاجِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى فِي بَعْضِ بِلَادِ رُوسْيَا وَغَيْرِهَا! ! فَمَنْ عَلِمَ هَذَا لَا يَسْتَبْعِدُ تَحَوُّلَ الدِّيَانَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ.

فَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ أَسَاسُ كُلِّ مَدَنِيَّةٍ ; لِأَنَّ الِارْتِقَاءَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِقَاءِ الْمَادِّيِّ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَقْرَأُ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْفَلَاسِفَةِ الِاجْتِمَاعِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ (هربرت سبنسر) أَنَّ آدَابَ الْأُمَمِ وَفَضَائِلَهَا الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَدَنِيَّتِهَا مُسْتَنِدَةٌ كُلُّهَا إِلَى الدِّينِ وَقَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَهَا عَنْ أَسَاسِ

الدِّينِ، وَبِنَاءَهَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا هَذَا التَّحْوِيلُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ فِي طَوْرِ التَّحْوِيلِ فِي فَوْضَى أَدَبِيَّةٍ لَا تُعْرَفُ عَاقِبَتُهَا، وَلَا يُحَدَّدُ ضَرَرُهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامُ فِي حَدِيثٍ لَهُ مَعَهُ: إِنَّ الْفَضِيلَةَ قَدِ اعْتَلَّتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَضَعُفَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيْثُ قَوِيَ فِيهَا الطَّمَعُ الْمَادِّيُّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ مِنْ أَشَدِّ أُمَمِ أُورُبَّا تَمَسُّكًا بِالدِّينِ مَعَ كَوْنِ مَدَنِيَّتِهَا أَثْبَتَ، وَتَقَدُّمِهَا أَعَمَّ ; لِأَنَّ الدِّينَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ الْفَضَائِلِ، وَالْآدَابِ، عَلَى أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ الْأُورُبِّيَّةَ بَعِيدَةٌ عَنْ رُوحِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَا غَلَبَةُ بَعْضِ آدَابِ الْإِنْجِيلِ عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ لَأَسْرَفُوا فِي مَدَنِيَّتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ إِسْرَافًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَإِذًا لَبَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ سَرِيعًا. وَمَنْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَكُونُ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّينِ أَقْرَبُهَا إِلَى السُّقُوطِ، وَالْهَلَاكِ لَا يَكُونُ مِفْتَاتًا فِي الْحُكْمِ وَلَا بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ.

فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ: أَنَّ وُجُودَ أَفْرَادٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ غَيْرِ الْمُتَدَيِّنِينَ لَا يَنْقُضُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى كَمَالِهِ الْمَدَنِيِّ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَسُوقُهُ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.

وَثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ فُلَانًا الْمُلْحِدَ الَّذِي يَرَاهُ عَالِيَ الْأَفْكَارِ وَالْآدَابِ قَدْ نَشَأَ عَلَى الْإِلْحَادِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى فِي ذَلِكَ عَنِ الدِّينِ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الْإِلْحَادِ، وَإِنَّنَا نَعْرِفُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُرْتَقِينَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَاتِّبَاعًا لِآدَابِ دِينِهِمْ، وَفَضَائِلِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِلْحَادُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُنَاقِضُ بَعْضَ أُصُولِ ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي نَشَئُوا عَلَيْهِ، وَالْفَلْسَفَةُ قَدْ تُغَيِّرُ بَعْضَ عَقَائِدِ الْإِنْسَانِ، وَآرَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يُقَبِّحُ لَهُ الْفَضَائِلَ وَالْآدَابَ الدِّينِيَّةَ، أَوْ يَذْهَبُ بِمَلَكَاتِهِ، وَأَخْلَاقِهِ الرَّاسِخَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَسْطُو الْإِلْحَادُ عَلَى بَعْضِ آدَابِ الدِّينِ كَالْقَنَاعَةِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ فَيُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>