أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مِنَ الْحَرَامِ كَأَكْلِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْقِمَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ مَا يَجْعَلُهُ حَقِيرًا بَيْنَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَوْ يُلْقِيهِ فِي السِّجْنِ، وَكَالْعِفَّةِ فِي الشَّهَوَاتِ فَيُبِيحُ لَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ
مَا لَا يُخِلُّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. هَذَا إِذَا كَانَ رَاقِيًا فِي أَفْكَارِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاقِينَ مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ، وَالنَّسْلِ إِلَّا الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ دُوَلَ أُورُبَّا قَدْ نَظَّمَتْ فِرَقَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الْحُقُوقِ مِنَ الشِّحْنَةِ وَالشُّرْطَةِ (الْبُولِيسِ وَالضَّابِطَةِ) أَتَمَّ تَنْظِيمٍ وَجَعَلَتِ الْجُيُوشَ الْمُنَظَّمَةَ عَوْنًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمَا حُفِظَ لِأَحَدٍ عِنْدَهَا عِرْضٌ وَلَا مَالٌ، وَلَعَمَّتْ بِلَادَهَا الْفَوْضَى وَالِاخْتِلَالُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُقُوقُ وَالْأَعْرَاضُ مَحْفُوظَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُنَظَّمَةِ أَيَّامَ كَانَ الدِّينُ مَرْعِيًّا فِي الْآدَابِ، وَالْأَحْكَامِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرُسُلِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا قَدْ جَاءَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى ; وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فِي الطَّاعَةِ هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَنَّهَا أَرْقَى مِمَّا نَرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ وَمَنْ يُطِعْ إلخ، وَجَمَعَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، فَإِنَّ مَنْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ مِنْ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ الصَّافِي الدَّائِمُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ بِجَانِبِهِ الْفَوْزُ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ الْمُنَغَّصَةِ بِالشَّوَائِبِ وَالْأَكْدَارِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَقَدْ جِيءَ بِالْحَالِ هُنَا مُفْرَدًا كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ فَقَالَ: خَالِدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَقَدِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى تَمَتُّعِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَأُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنْعِمُ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَعَرِّي الْحَكِيمُ:
وَلَوْ أَنِّي حُبِيتُ الْخُلْدَ وَحْدِي ... لَمَا أَحْبَبْتُ بِالْخُلْدِ انْفِرَادَا
وَأَمَّا مَنْ قَذَفَهُ عِصْيَانُهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي النَّارِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْأُنْسِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ وَحِيدٌ لَا يَجِدُ لَذَّةً فِي الِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِهِ وَلَا أُنْسًا، فَلَمَّا كَانَ لَا يَتَمَتَّعُ بِمَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ كَانَ كَأَنَّهُ وَحِيدٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ خَالِدًا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا
الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [٤٣: ٣٩] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute