وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ يَكُونُ خَالِدًا فِي النَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ عَاصِيًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤: ١١٦] وَسَتَأْتِي الْآيَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْعَلُ الْآيَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلًا يُرْجِعُ إِلَيْهِ سَائِرَ الْآيَاتِ وَلَوْ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّأْوِيلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَى أَنَّ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحُدُودِ لَا جِنْسُهَا، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ كُلَّهَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعَدِّيَ يَصْدُقُ بِالْبَعْضِ وَهُوَ يَكُونُ مِنَ الْكُفْرِ وَجُحُودِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَالْجُحُودُ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَإِمَّا غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ إِنْسَانٍ، وَإِعْطَاءَهُ لِآخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْكَارِ حُكْمِ اللهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ السَّرِقَةُ فَحَبَسَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ مُعَاقَبَةَ السَّارِقِ بِهِ، أَوْ مُسْتَقْبِحًا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ تَجِدُونَهُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي النَّاجِينَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْجَنَّةِ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣: ١٣٥]-[رَاجِعْ ص١١٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ]- فَإِنَّ مَنْ يَعْمَلُ الذَّنْبَ، وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مُصِرًّا عَالِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ لِلْمُذْنِبِ حَالَتَيْنِ، وَإِنَّنَا نُعِيدُ ذَلِكَ وَلَا نَزَالُ نُلِحُّ فِي تَقْرِيرِهِ إِلَى أَنْ نَمُوتَ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: غَلَبَةُ الْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، أَوِ الْغَضَبِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِهِ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَقَلْبُهُ غَائِبٌ
عَنِ الْوَعِيدِ غَيْرُ مُتَذَكِّرٍ لِلنَّهْيِ، وَإِذَا تَذَكَّرَهُ يَكُونُ ضَعِيفًا كَنُورٍ ضَئِيلٍ يَلُوحُ فِي ظُلْمَةِ ذَلِكَ الْبَاعِثِ الْمُتَغَلِّبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَخْتَفِيَ، فَإِذَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ وَتَذَكَّرَ النَّهْيَ وَالْوَعِيدَ نَدِمَ وَتَابَ، وَوَقَعَ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَشَدِّ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعِقَابِ، وَصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بِالنَّجَاةِ فِي يَوْمِ الْمَآبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى الذَّنْبِ جَرِيئًا عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا ارْتِكَابَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِتَرْكِهِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ تَذَكُّرُ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute