للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَقَدْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَأَرْكَانِهَا.

أَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا

مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.

وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً: لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>