فِيهِ الشَّهَوَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، فَهُوَ يَأْلَفُ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَقْلُ لِيَضَعَ لِتِلْكَ الشَّهَوَاتِ النِّظَامَ وَالْقَوَانِينَ، وَالْعِلْمَ بِمَا شُرِعَ فِيهَا مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ هَفْوَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِفَ الْعَقْلُ وَيَفْقَهَ أَسْرَارَ النَّقْلِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَبِيرُ النَّفْسِ، عَالِي الِاسْتِعْدَادِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ مَرَّةً كَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ عَوَاقِبِهَا وَمُصَوِّرًا إِيَّاهَا بِصُورَةٍ أَحْسَنَ مِنْ صُورَتِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِذَا أَلَمَّ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ بِالذَّنْبِ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ الَّذِي حَجَبَتْهُ عَنْهُ الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ضَعُفَ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ، فَيُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ، وَبَيْنَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَا لَهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِذَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ، وَاعْتَادَهُ وَعُرِفَ بِهِ فَيَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَيَصْرِفُهَا عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَرْسَخُ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا،
وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute