كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ ; إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ; لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ - وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٦، ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [٣: ١٣٥] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute