للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ; وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ " يَتُوبُونَ " هُنَاكَ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللهِ " فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ

أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا.

قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>