للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَالْبَسْطِ، وَالْإِيضَاحِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ.

قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [٢٣: ١٠٧] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ:

إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ.

وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ، وَهُوَ - أَيِ الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>