إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَابْنِ حَزْمٍ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى قَوْلٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ فَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَانْحَصَرَ التَّحْرِيمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُنَالِكَ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَذْهَبٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ عَائِشَةَ.
وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَهَا، وَبِهَا يَقُولُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَهِيَ تَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ مَنْعِ تَحْرِيمِ الْمَصَّتَيْنِ وَالْإِمْلَاجَتَيْنِ، وَيُعَدُّ تَقْيِيدًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا قَالُوا: وَتَقْيِيدُ بَيَانٍ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ.
قَالَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ إِلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا: إِنَّ عَائِشَةَ نَقَلَتْ رِوَايَةَ الْخَمْسِ نَقْلَ قُرْآنٍ لَا نَقْلَ حَدِيثٍ فَهِيَ لَمْ تُثْبِتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ تُثْبِتْ سُنَّةً فَنَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ ضَيَاعُ
شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَدْلُولُ بِنَسْخِ الدَّالِّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَعَمَلُ عَائِشَةَ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَقُولُ بِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى لَمَا بَقِيَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِعَائِشَةَ، بَلْ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ تَكْثُرُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَابِعِ الْخُلَفَاءِ وَأَوَّلِ الْأَئِمَّةِ الْأَصْفِيَاءِ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ قَالَ بِالْخَمْسِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَمُعَلِّمَتُهُ، وَاتِّبَاعُهُ لَهَا لَا يَزِيدُ قَوْلَهَا قُوَّةً وَلَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً. ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، فَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ إِلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute