لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَارَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتَّى أَتَاهُمُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ، أَيْ فَأَخَذُوا بِهِ وَرَجَعُوا عَنْ رَأْيِهِمُ الْأَوَّلِ.
فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَمٌّ لِمَنْ رَضَعَ مِنْهَا، وَجَمِيعَ أَوْلَادِهَا إِخْوَةٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ آبَاؤُهُمْ، وَأُصُولَهَا أُصُولٌ لَهُ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا وَإِخْوَتُهَا خُئُولَةٌ لَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا. وَأَنَّ زَوْجَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَبٌ لِلرَّضِيعِ أُصُولُهُ أُصُولٌ لَهُ، وَفُرُوعُهُ فُرُوعٌ لَهُ، وَإِخْوَتُهُ عُمُومَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّةَ بِنْتٍ مِنْ بَنَاتِهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ مُرْضِعَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ مِنَ الْمُرْضِعَةِ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ لِلرَّضِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهَا إِخْوَةٌ لِأَبٍ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَهَا هِيَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ لَقَاحِ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ الرَّضِيعُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَمَّاتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ إِخْوَةُ أَبِيهِ بِالرَّضَاعَةِ، فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ - وَقَدْ ذُكِرْنَ بِالتَّفْصِيلِ - مُحَرَّمَاتٍ بِالرَّضَاعَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا إِخْوَةُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعُوا مِثْلَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي تَكْوِينِ بِنْيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي بِنْيَتِهِ فَيُبَاحُ لِلْأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ أَرْضَعَتْ أَخَاهُ، أَوْ أُمَّهَا، أَوْ بِنْتَهَا، وَيُبَاحُ لِلْأُخْتِ أَنْ تَتَزَوَّجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ أَخُوهَا، أَوْ أُخْتُهَا، أَوْ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ مَثَلًا.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِ الرَّضَاعَةِ فَيُرْضِعُونَ الْوَلَدَ مِنَ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عِدَّةِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَعْنُونَ بِمَعْرِفَةِ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَإِخْوَتِهَا، وَلَا أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَإِخْوَتِهِ لِيَعْرِفُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَحُقُوقِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ، فَكَثِيرًا مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمَا يُسَمَّى إِرْضَاعًا فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرِّمُ
الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ - وَالْإِمْلَاجَةُ: الْمَرَّةُ مِنْ أَمْلَجَتْهُ ثَدْيَهَا إِذَا جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ أَيْ يَمُصُّهُ - وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعَةِ كَكَثِيرِهَا، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute