للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَنَاتِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ حَتَّى عَامَّةُ الْمُوَلَّدِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ ; لِأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتُهَا، وَالرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُلِ وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ لِأَنَّهُ يَرُبُّهُ كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ أَيْ يَسُوسُهُ، فَهُوَ مَعْنَى مَرْبُوبٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ يُقَالَ فِي مُؤَنَّثِهِ رَبِيبٌ كَمُذَكَّرِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ رَبِيبَةٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا. وَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْغَالِبِ فِي الرَّبِيبَةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا (وَالْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا يَحْجُرُهُ وَيَحُوطُهُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ صَدْرِهِ بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ) كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [١٧: ٣١] لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ، فَلَوْ قَتَلُوهُمْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا. وَيُقَالُ: فَلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ، قَالُوا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، كَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ زَوْجِ أُمِّهَا يَخْلُو بِهَا، وَيُسَافِرُ مَعَهَا، وَيُعَامِلُهَا بِكُلِّ مَا يُعَامِلُ بِهِ بِنْتَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِإِشْعَارِ الرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُوَضِّحُ لَهُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَيُقَرِّرُهَا

فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.

وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: " كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا " (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ " وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>