بِالْجُعْلِ فِي النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ
ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ - أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ - لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute