للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَمَاعَةِ الْحَاكِمَةِ مِنَ الْأُمَّةِ ; لِئَلَّا يَمْنَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمْرَضُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرَكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْأَفْرَادِ سَائِرَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَثَّهُمْ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ; لِيَكُونَ الدَّافِعُ لَهُمْ إِلَى الْبَذْلِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَتَقْوَى مَلِكَاتُ السَّخَاءِ وَالنَّجْدَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ وَمَرْضَاتِهِمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ قَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَفْسَدَةَ اتِّكَالِ الْكُسَالَى عَلَى كَسْبِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ وَرَاءِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ انْحِطَاطُ الْبَشَرِ وَفَسَادُ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَمِنْهُمُ الْمَغْمُولُ الْمُخْلِدُ إِلَى الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَمِنْهُمْ مُحِبُّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَتَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ، فَإِذَا أُبِيحَ لِلْكُسَالَى الْبَطَّالِينَ، أَنْ يَفْتَاتُوا عَلَى الْكَاسِبِينَ الْمُجِدِّينَ، فَيَأْخُذُوا مَا شَاءُوا أَوِ احْتَاجُوا مِنْ ثَمَرَاتِ كَسْبِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ، أَفْضَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ إِلَى الْفَوْضَى فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّعْفِ وَالتَّوَانِي فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِحَقٍّ، أَوْ يَبْذُلَ صَاحِبُ الْمَالِ مَا شَاءَ عَنْ كَرَمٍ وَفَضْلٍ.

فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [س ٢ آيَةِ ١٨٨ ج٢ ص ١٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ.

أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ

يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢: ٦١) ، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ ـ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ ـ هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>