للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (٤: ١١) ، قَالَ الرِّجَالُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ بِحَسَنَاتِنَا كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَيَكُونَ أَجْرُنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ أَجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَتِ النِّسَاءُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا لَنَا الْمِيرَاثُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ الْوَاحِدِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَهِيَ لَا تَتَّفِقُ اتِّفَاقًا بَيِّنًا مَعَ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْحَسَدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: لَيْتَ مَا أُعْطِيَ فُلَانٌ مِنَ الْمَالِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ كَانَ عِنْدِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَدًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللهُمَّ أَعْطِنِي مِثْلَهُ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَبُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْحَيْرَةُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّفَ كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْمَالًا فَمَا كَانَ خاصًّا بِالرِّجَالِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُنَّ

فِيهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا لِلْفَرِيقَيْنِ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَتَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي تَمَنَّيْنَ عَمَلَ الرِّجَالِ، وَأَيُّ عَمَلِ الرِّجَالِ تَمَنَّيْنَ؟ تَمَنَّيْنَ أَخَصَّ أَعْمَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَهُوَ حِمَايَةُ الذِّمَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْقُوَّةِ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ عِنَايَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَتَلَطُّفٌ بِهِنَّ وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ وَإِخْلَاصِهِنَّ فِيمَ تَمَنَّيْنَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّمَنِّي النَّاشِئُ عَنِ الْحَيَاةِ الْمِلِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ غَرِيبٌ مِنَ النِّسَاءِ جِدًّا ; وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي عُنْفُوَانِ حَيَاتِهَا يَكُونُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ فِيهَا مُشْتَرِكِينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي آثَارِهَا، وَإِنَّهَا لَتَسْرِي فِيهَا سَرَيَانًا عَجِيبًا وَمَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَةَ الْعَرَبِ بِهِ وَسِيرَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي زَمَنِهِ يَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَسِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَنْقَبَةٍ وَكُلِّ عَمَلٍ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ وَيُبَايِعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي (سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ) ، كَمَا كَانَ يُبَايِعُهُ الرِّجَالُ، وَكُنَّ يَنْفِرْنَ مَعَهُمْ إِذَا نَفَرُوا لِلْقِتَالِ، يَخْدُمْنَ الْجَرْحَى وَيَأْتِينَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَصَّ النِّسَاءُ بِأَعْمَالِ الْبُيُوتِ، وَالرِّجَالُ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي فِي خَارِجِهَا لِيُتْقِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِهِ كَمَا يَجِبُ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، وَتَنْكِيرُ لَفْظِ نَصِيبٌ، لِإِفَادَةِ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى مَا عُمِلَ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: فَفِي الْكَلَامِ حَثٌّ ضِمْنِيٌّ عَلَيْهِ ـ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: لِيَسْأَلْهُ كُلٌّ مِنْكُمُ الْإِعَانَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَى مَا نِيطَ بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَمَنَّى مَا نِيطَ بِالْآخَرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ تَمَنِّي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ كَالْجَمَالِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّيهَا لِمَنْ لَمْ يُعْطَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ إِذْ يُحْمَدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا نَالَ الْآخَرُ وَيَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ بِالسَّعْيِ وَالْجِدِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَجِّهُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>