للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْظَارَكُمْ إِلَى مَا يَقَعُ تَحْتَ كَسْبِكُمْ وَلَا تُوَجِّهُوهَا إِلَى مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ؛ فَإِنَّمَا الْفَضْلُ بِالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ فَلَا تَتَمَنَّوْا شَيْئًا بِغَيْرِ كَسْبِكُمْ وَعَمَلِكُمْ اهـ.

أَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَنِّي تَشَهِّي حُصُولِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَحَدِيثُ

النَّفْسِ بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيَّ اهـ.

وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مُشْكِلًا، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ مَنْ يُتْبِعُ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَيُسْلِسُ لِخَوَاطِرِهَا الْعِنَانَ، بَلْ يُلْقِي مِنْ يَدِهِ الْعِنَانَ وَاللِّجَامَ، حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانِيُّ مِنْهُ كَالْأَحْلَامِ مِنَ النَّائِمِ لَا يَمْلِكُ دَفْعَهَا إِذَا أَتَتْ، وَلَا رَدَّهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَشَأْنُ قُوَى الْإِرَادَةِ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَزَائِمَ قَوِيَّةٍ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ بِهَذَا النَّهْيِ إِلَى تَحْكِيمِ الْإِرَادَةِ فِي خَوَاطِرِهِمُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، لِتَصْرِفَهَا عَنِ الْجَوَلَانِ فِيمَا هُوَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا يَصْرِفُونَ أَجْسَامَهُمْ أَنَّ تَجُولَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَوَجُّهِهَا فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَشْرَفُ كَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ عَنِ النَّفْسِ مَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالِ الْحَيَاةِ وَتَكَالِيفِهَا.

الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ مِنَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْتِهَاءُ وَهُوَ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعَمَلُ النَّافِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْفَائِدَةُ تَامَّةً مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يَشْغَلُ النَّفْسَ بِالْأَمَانِي وَالتَّشَهِّي كَالْبِطَالَةِ وَالْكَسْرِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكَسْبَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي (ثَانِيهِمَا) : تَوْجِيهُ الْفِكْرِ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْعَمَلِ إِلَى مَا يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاكَ بِهِ آنِفًا وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الْإِرَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.

وَفِي قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ ; وَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فَضْلٌ، أَيْ: زِيَادَةٌ فِي صَاحِبِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ، وَهَذَا الْفَضْلُ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَسْبُ وَلَا يُنَالُ بِالْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَلَا يُعَابُ الْمَفْضُولُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ

وَلَا يُمْدَحُ الْفَاضِلُ فِيهِ بِالْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، كَاسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، فَتَمَنِّي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَزَايَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ سَخَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَمَهَانَةٍ فِي النَّفْسِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مُعَالَجَتِهِ بِالْفَضْلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الْأَمَانِيُّ فَتُنْسِيَهُ رَبَّهُ وَمَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْفَضْلِ، وَتُنْسِيَهُ نَفْسَهُ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُدْرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>