الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ،
ثُمَّ نَهَى عَنْ تَمَنِّي أَحَدِ مَا فَضَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِ ; لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسُوقُ إِلَى التَّعَدِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَامًّا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَالسِّيَاقُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَسْبُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الْغَالِبِ هُوَ الْكَسْبُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ، فَالْمَوَالِي مَنْ لَهُمُ الْوِلَايَةُ عَلَى التَّرِكَةِ، وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتِمُّ بِقَوْلِهِ: تَرَكَ وَالْمَعْنَى: وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، مَوَالِي لَهُمْ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتْرُكُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمَوَالِي هُمُ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، وَالْأَزْوَاجُ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ هُنَا بِالَّذِينِ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمُ: الْأَزْوَاجُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ زَوْجًا لَهُ حَقُّ الْإِرْثِ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَدَيْنِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ: فَأَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَصِيبَهُمُ الْمَفْرُوضَ لَهُمْ وَلَا تَنْقُصُوهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ مَوْضِعًا لِطَمَعِ بَعْضِ الْوَارِثِينَ ـ أَيْ: وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمُ الْمَالُ لِإِقَامَةِ الْمُورِثِ مَعَهُمْ ـ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ حَاضِرٌ يَشْهَدُ تَصَرُّفَكُمْ فِي التَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الطَّمَعُ وَحَسَدُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ الْوَارِثِينَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي لَا يَعْثُرُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَلَا يَكْبُو فِي مَيْدَانِهِ جَوَادُ الذِّهْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَأَيْنَ مِنْهُ تِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمُتَكَلَّفَةُ الَّتِي انْتَزَعَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَنْوِينِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ فَهُوَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْمَأْخَذُ الْقَرِيبُ الْمُتَبَادَرُ لِهَذَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الْآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي عُطِفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ فَاخْتَارَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْحُكْمِ فِي امْتِثَالِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبُعْدَ فِي التَّقْدِيرِ فَقَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَفْظَ تَرِكَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ قَوْمٍ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: وَلِكُلِّ تَرِكَةٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا يَلُونَهَا وَيَحُوزُونَهَا، مِمَّا تَرَكَ بَيَانٌ لِكُلٍّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْعَامِلِ، أَوْ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا مِمَّا تَرَكَ عَلَى أَنَّ مِنْ صِلَةُ مَوَالِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَارِثِ وَفِي تَرَكَ ضَمِيرُ كُلٍّ وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ اسْتِئْنَافٌ مُفَسِّرٌ لِلْمَوَالِي وَفِيهِ خُرُوجُ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْأَقْرَبُونَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ حَظٌّ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ عَلَى أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute