جَعَلْنَا مَوَالِيَ صِفَةُ كُلٍّ، وَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْأَقْرَبِينَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلِمَاذَا لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٤: ٧) ، إِلَخْ، بَلْ فَسَّرَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمُتَوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ، وَذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا وَرَدَ فِي إِرْثِ الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَةِ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ بِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَرَوَوْا أَنَّ الْحَلِيفَ كَانَ يَرِثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (٨: ٧٥) ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، فَجُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ـ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ـ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْآيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ بَدْرٍ، وَالْمَوَارِيثُ شُرِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا لِأَنَّهَا بَعْدَهَا فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَبُنِيَتْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْوَارِثِينَ نَصِيبًا يَجِبُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ تَمَامًا، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُقَرِّرَةً لِلْإِرْثِ بِالتَّحَالُفِ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الْإِرْثَ بِالتَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ وَنَسَخَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلَهُ إِرْثُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا آخَى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ أَخَاهُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ قَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْإِرْثَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (٣٣: ٦) ، وَهُوَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، أَمَّا الْمَوَالِي فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهُمُ الْوَارِثُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي (١٩: ٥) .
هَذَا وَإِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَدْ سَبَقَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute