للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَعْطَاهُمْ مَا لَمْ يُعْطِهِنَّ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّفَاوُتُ فِي التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ أَثَرَ التَّفَاوُتِ فِي الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ كَسْبِيٌّ يُدَعِّمُ السَّبَبَ الْفِطْرِيَّ، وَهُوَ مَا أَنْفَقَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُهُورَ تَعْوِيضٌ لِلنِّسَاءِ وَمُكَافَأَةٌ عَلَى دُخُولِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ تَحْتَ رِيَاسَةِ الرِّجَالِ، فَالشَّرِيعَةُ كَرَّمَتِ الْمَرْأَةَ إِذْ فَرَضَتْ لَهَا مُكَافَأَةً عَنْ أَمْرٍ تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ، وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا قَيِّمًا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهَا بِالْعُقُودِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنَازَلَتْ بِاخْتِيَارِهَا عَنِ الْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ، وَسَمَحَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَرَضِيَتْ

بِعِوَضٍ مَالِيٍّ عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨) ، فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ; لِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِعْطَاؤُهَا عِوَضًا وَمُكَافَأَةً فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَجَعَلَهَا بِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِتَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ مُثْلَجَةَ الصَّدْرِ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى قَبُولِ عَقْدٍ يَجْعَلُهَا مَرْءُوسَةً لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّا نَرَى النِّسَاءَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ يُعْطِينَ الرِّجَالَ الْمُهُورَ لِيَكُنَّ تَحْتَ رِيَاسَتِهِمْ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا بِدَافِعِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ عِصْيَانَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ تَسْمِيَةِ الْمُهُورِ أُجُورًا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ هُنَا شَامِلًا لِلْمَهْرِ، وَلِمَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الزَّوَاجِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمَرْءُوسُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُوسُ مَقْهُورًا مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا مَا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ رَئِيسُهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ قَيِّمًا عَلَى آخَرَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرْشَادِهِ وَالْمُرَاقَبَةِ عَلَيْهِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ أَيْ: مُلَاحَظَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَنْزِلِ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ وَلَوْ لِنَحْوِ زِيَارَةِ أُولِي الْقُرْبَى إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَأْذَنُ بِهَا الرَّجُلُ وَيَرْضَى، أَقُولُ: وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلرَّجُلِ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لِلْمَرْأَةِ تَقْدِيرًا إِجْمَالِيًّا يَوْمًا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا شَهْرًا أَوْ سَنَةً سَنَةً، وَهِيَ تُنَفِّذُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرَى أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيُنَاسِبُهُ حَالُهُ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ.

قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: " بِمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ "، أَوْ قَالَ: " بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَيْهِنَّ " لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَظْهَرَ فِيمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ هِيَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (٤: ٣٢) ، وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَدَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَالرَّجُلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ، (أَقُولُ) : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْغِيَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَثْقِلَ فَضْلَهُ وَتَعُدَّهُ خَافِضًا لِقَدْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا عَارَ

<<  <  ج: ص:  >  >>