للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى الشَّخْصِ أَنْ كَانَ رَأْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ يَدِهِ، وَقَلْبُهُ أَشْرَفَ مِنْ

مَعِدَتِهِ مَثَلًا ; فَإِنَّ تَفَضُّلَ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ عَلَى بَعْضٍ بِجَعْلِ بَعْضِهَا رَئِيسًا دُونَ بَعْضٍ ـ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى عُضْوٍ مَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَتَثْبُتُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ مَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِلْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْحِمَايَةِ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهَا بِهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَهِيَ آمِنَةٌ فِي سِرْبِهَا، مَكْفِيَّةُ مَا يُهِمُّهَا مِنْ أَمْرِ رِزْقِهَا، وَفِي التَّعْبِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْجِنْسِ لَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ، فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَفْضُلُ زَوْجَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ فِي قُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ظُهُورِهِ مِنَ الْعِبَارَةِ وَتَصْدِيقِ الْوَاقِعِ لَهُ وَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ ضَعْفَهُ، وَبِهَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفَادَتْهُمَا الْعِبَارَةُ ظَهَرَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّ التَّعْبِيرَ يَشْمَلُ مَا يَفْضُلُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَمَا يَفْضُلُ بِهِ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادَ جِنْسِهِ وَأَفْرَادَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَلَا تَأْتِي تِلْكَ الصُّوَرُ كُلُّهَا هُنَا، وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَاكَ غَيْرُهُ هُنَا، عَلَى أَنَّنَا أَشَرْنَا ثَمَّةَ إِلَى ضَعْفِ صُورَةِ فَضْلِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِنَّ مِنَ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرِّجَالُ لَا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ، وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ.

قَالَ: وَمَا بِهِ الْفَضْلُ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالْفِطْرِيُّ: هُوَ أَنَّ مِزَاجَ الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَجْمَلُ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ أَقُولَ: إِنَّ الرَّجُلَ أَجْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا الْجَمَالُ تَابِعٌ لِتَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا الْإِنْسَانُ فِي جِسْمِهِ الْحَيِّ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَنِظَامُ الْخِلْقَةِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّنَا نَرَى ذُكُورَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ وَأَجْمَلَ مِنْ إِنَاثِهَا، كَمَا تَرَوْنَ فِي الدِّيكِ وَالدَّجَاجَةِ، وَالْكَبْشِ وَالنَّعْجَةِ، وَالْأَسَدِ وَاللَّبُؤَةِ، وَمِنْ كَمَالِ خِلْقَةِ الرِّجَالِ وَجَمَالِهَا شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ الْأَجْرَدُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَجِدُ دَوَاءً يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اعْتَادُوا حَلْقَ اللِّحَى، وَيَتْبَعُ قُوَّةَ الْمِزَاجِ وَكَمَالَ الْخِلْقَةِ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ فِي مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْأَطِبَّاءِ: الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ.

وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْكَمَالُ فِي الْأَعْمَالِ

الْكَسْبِيَّةِ، فَالرِّجَالُ أَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ ; أَيْ: فَلِأَجْلِ هَذَا كَانُوا هُمُ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَحْمُوهُنَّ وَيَقُومُوا بِأَمْرِ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فِي مُجْتَمَعِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَضُمُّهَا الْمَنْزِلُ ; إِذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ رَئِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَوْحِيدِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، انْتَهَى بِزِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.

أَقُولُ: وَيَتْبَعُ هَذِهِ الرِّيَاسَةَ جَعْلُ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ يُبْرِمُونَهَا بِرِضَا النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَحُلُّونَهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَوَّلُ مَا يَذْكُرُهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>