وَلَا بُدَّ أَنَّ إِقَامَةَ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ تُعَدُّ مِنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَثْنَ عَابِرِي السَّبِيلِ لَكَانَ عَلَى أُولَئِكَ الْجِيرَانِ حَرَجٌ فِي إِلْزَامِهِمْ أَلَّا يَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ إِذَا كَانُوا جُنُبًا، وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَى إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ الشَّرِيفِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى خَوْخَةَ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ (أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَالْخَوْخَةُ: الْكُوَّةُ وَالْبَابُ الصَّغِيرُ مُطْلَقًا، أَوْ مَا كَانَ فِي الْبَابِ الْكَبِيرِ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ.
حَتَّى تَغْتَسِلُوا أَيْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَلَا بِالْمُكْثِ فِي مَكَانِهَا إِلَى أَنْ تَغْتَسِلُوا إِلَّا مَا رُخِّصَ لَكُمْ فِيهِ مِنْ عُبُورِ السَّبِيلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَحِكْمَةُ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالطَّهَارَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ فَوَائِدُ صِحِّيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ سَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِالتَّفْصِيلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَالِاغْتِسَالُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْجَنَابَةِ أَنْ تُحْدِثَ تَهَيُّجًا فِي الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَيَتَأَثَّرَ بِهَا الْبَدَنُ كُلُّهُ وَيَعْقُبُهَا فُتُورٌ، وَضَعْفٌ فِيهِ يُزِيلُهُ الْمَاءُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ جَهِلَ هَذَا مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ لَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنَابَةِ إِلَّا غَسْلَ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ، فَأَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ الْجُنُبِ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ فِي صِلَاتِهِ النَّظَافَةَ وَالنَّشَاطَ، كَمَا أَوْجَبَ فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ السَّكْرَانِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ وَتَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرَ، وَيَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ.
وَلَمَّا كَانَ الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ يَتَعَسَّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَيَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِهَا وَمِثْلُهُ الْوُضُوءُ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ عِبَادَةً مَحْتُومَةً وَفَرِيضَةً مَوْقُوتَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا ; لِأَنَّهَا بِتَكْرَارِهَا تُذَكِّرُ الْمَرْءَ إِذَا نَسِيَ مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى فَتَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى، بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ، وَالشَّأْنُ فِيهِمَا تَعَسُّرُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَاءُ ضَارًّا بِالْمَرِيضِ كَبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْجِلْدِيَّةِ وَالْقُرُوحِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً أَيْ: أَوْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَهُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ـ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ ـ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ كِنَايَةً كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي النَّزَاهَةِ بِالْكِنَايَةِ عَمَّا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَالْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ كَالْوَادِي، وَأَهْلُ الْبَوَادِي وَالْقُرَى الصَّغِيرَةِ يَقْصِدُونَ بِحَاجَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِأَجْلِ السَّتْرِ، وَالِاسْتِخْفَاءِ عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ صَارَ لَفْظُ الْغَائِطِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً
فِي الْحَدَثِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُكَنَّى عَنِ الْحَدِيثِ فِي الْمُدُنِ الْآهِلَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute