الَّتِي تُتَّخَذُ فِيهَا الْكُنُفُ بِكِنَايَاتٍ أُخْرَى، وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ: كِنَايَةٌ عَنْ غِشْيَانِهِنَّ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِنَّ، وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ بِالْيَدِ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَحَقِيقَتُهَا إِصَابَةُ الْبَشَرَةِ لِلْبَشَرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " أَوْ لَمَسْتُمُ " وَلَا تُنَافِي قِرَاءَتُهُمَا ذَلِكَ التَّجَوُّزَ الْمَشْهُورَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ بَشَرَةِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمَحَارِمَ مِنْهُنَّ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أَيْ: فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ: الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَفَقْدُ الْمَاءِ عَقِبَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ تَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، أَيِ اقْصِدُوا وَتَحَرَّوْا مَكَانًا مَا مِنْ صَعِيدِ الْأَرْضِ، أَيْ: وَجْهِهَا طَيِّبًا، أَيْ طَاهِرًا لَا قَذَرَ فِيهِ وَلَا وَسَخَ، فَامْسَحُوا هُنَاكَ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، تَمْثِيلًا لِمُعْظَمِ عَمَلِ الْوُضُوءِ فَصَلُّوا، فَقَيْدُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً لِلْجَائِي مِنَ الْغَائِطِ وَمُلَامِسِ النِّسَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَيْدَ بَعْدَ الْجُمَلِ لِلْأَخِيرَةِ، وَمَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ، وَالْمَانِعُ هُنَا: أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِاشْتِرَاطِ فَقْدِ الْمَاءِ لِتَيَمُّمِ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ دُونَ الصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ كَحُكْمِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ، أَوْ مُلَامِسِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَعَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ التَّيَمُّمُ فَقَطْ، هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ مِنَ الْآيَةِ نَفْسِهَا إِذَا لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسَهُ حَمْلَهَا عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ وَرَاءِ الْقُرْآنِ يَجْعَلُهَا بِالتَّكَلُّفِ حُجَّةً لَهُ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ طَالَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا غَنَاءً، وَلَا رَأَيْتُ قَوْلًا فِيهَا يَسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمُصْحَفِ وَحْدَهُ فَوَجَدْتُ الْمَعْنَى وَاضِحًا جَلِيًّا، فَالْقُرْآنُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ وَأَظْهَرُهُ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ ـ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبَهَا ـ إِلَى تَكَلُّفَاتِ فَنُونِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ اللُّغَةِ عِنْدَ حَافِظِي أَحْكَامِهَا مِنَ الْكُتُبِ مَعَ عَدَمِ تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ ـ إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَةَ مُشْكِلَةً ; لِأَنَّهَا لَمْ تَنْطَبِقْ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ انْطِبَاقًا ظَاهِرًا سَالِمًا مِنَ الرَّكَاكَةِ وَضَعْفِ التَّأْلِيفِ، وَالتَّكْرَارِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا أَعْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ، وَإِذَا كَانَ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ رَاجَعَ خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ فِيهَا قَوْلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، فَأَنَا لَمْ أُرَاجِعْ عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِهَا إِلَّا رُوحَ الْمَعَانِي وَهُوَ آخِرُ التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ تَأْلِيفًا، وَصَاحِبُهُ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ فَإِذَا بِهِ يَقُولُ: " الْآيَةُ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْقُرْآنِ "، وَوَاللهِ إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُعْضِلَةً وَلَا مُشْكِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مُعْضِلَاتٌ إِلَّا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ بِالرِّوَايَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَعِنْدَ مَنِ اتَّخَذُوا الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ بَعْدَ الْقُرْآنِ أُصُولًا لِلدِّينِ يَعْرِضُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا عَرْضًا، فَإِذَا وَافَقَهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ أَوْ بِتَكَلُّفٍ قَلِيلٍ فَرِحُوا وَإِلَّا عَدُّوهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالْمُعْضِلَاتِ ; عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْقَطْعِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ عَمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الدِّينِ، وَأَنَّ حُكْمَ اللهِ يُلْتَمَسُ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ يُؤْخَذُ، وَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى مَأْخَذٍ آخَرَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute