للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:

جَرَى جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ لَا حِكْمَةَ لَهُ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى ; وَذَلِكَ أَنَّ لِأَكْثَرِ الْعِبَادَاتِ مَنَافِعَ ظَاهِرِيَّةً لِفَاعِلِيهَا، وَمِنْهَا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، فَإِذَا هِيَ فُعِلَتْ لِأَجْلِ فَائِدَتِهَا الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا مَعَ ذَلِكَ الْإِذْعَانُ وَطَاعَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا وَلَا سِيَّمَا الطَّهَارَةُ، وَمَعْنَى النِّيَّةِ قَصْدُ الِامْتِثَالِ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعَمَلِ لَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ، فَالْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِلتَّيَمُّمِ هِيَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِتَمْثِيلِ بَعْضِ عَمَلِ الْوُضُوءِ لِيُشِيرَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَهُ مَا فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مِنَ النَّظَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ، فَالتَّيَمُّمُ رَمْزٌ لِمَا فِي الطِّهَارَةِ الْمَتْرُوكَةِ لِلضَّرُورَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي طَهَارَةِ النَّفْسِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الدِّينِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالَّتِي شَرَعَتْ طَهَارَةَ الْبَدَنِ؛ لِتَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهَا وَوَسِيلَةً لَهَا ; فَإِنَّ مَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَعِيشَ فِي الْأَوْسَاخِ وَالْأَقْذَارِ لَا يَكُونُ عَزِيزَ النَّفْسِ آبِيَ الضَّيْمِ كَمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥: ٦) .

وَيْلِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ حِكْمَةٌ أُخْرَى عَالِيَةٌ، وَهِيَ مَا فِي تَمْثِيلِ عَمَلِ الطَّهَارَةِ بِالْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُحَافَظَةِ، فَمَنِ اعْتَادَ ذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَإِتْمَامُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ الْمُؤَقَّتِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ لِعُذْرٍ يُوشِكُ أَنْ يُتَهَاوَنَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَلْ لِمَحْضِ الْكَسَلِ ; فَمَلَكَةُ الْمُوَاظِبَةِ وَالْمُحَافِظَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ وَالنِّظَامِ، وَتَرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَاضِحًا جَلِيًّا فِي نِظَامِ الْجُنْدِيَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْجُنُودَ فِي مَأْمَنِهِمْ دَاخِلَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ يُقِيمُونَ الْخُفَرَاءَ عَلَيْهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ؛ لِكَيْلَا يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ أَيَّامَ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، كَذَلِكَ نَرَى الْعُمَّالَ فِي الْمَعَامِلِ وَالْبَوَاخِرِ يَتَعَاهَدُونَ الْآلَاتِ بِالْمَسْحِ وَالتَّنْظِيفِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الْخَدَمُ فِي الْقُصُورِ وَالدُّورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لِلْأُمَرَاءِ

وَالْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ النِّظَامَ فِي مَعِيشَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ بِالْكَنْسِ وَالْفَرْشِ وَالْأَثَاثَ بِالتَّنْفِيضِ وَالْمَسْحِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ وَسَخٌ وَلَا غُبَارٌ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَاهِدُ كُلُّهَا وَمَا فِيهَا نَظِيفًا دَائِمًا، وَمَا مِنْ مَكَانٍ تُتْرَكُ فِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَتُتَّبَعُ قَاعِدَةُ تَنْظِيفِ الشَّيْءِ عِنْدَ طُرُوءِ الْوَسَخِ أَوِ الْغُبَارِ عَلَيْهِ فَقَطْ، إِلَّا وَتَرَى الْوَسَخَ يُلِمُّ بِهِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ مَثَلًا بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِعَمَلٍ يُمَثِّلُ طَهَارَتَهَا، وَيُذَكِّرُ بِهَا تُضْعِفُ مَلَكَةَ الْمُوَاظِبَةِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَوْدُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ مُسْتَثْقَلًا، وَأَنَّ فِي التَّيَمُّمِ تَقْوِيَةً لِتِلْكَ الْمَلَكَةِ وَتَذْكِيرًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ إِمْكَانِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْهُ قَبْلُ مِنْ أُسْتَاذٍ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابٍ، وَلَعَلَّكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>