وَاتَّصَفُوا بِالضَّلَالَةِ وَالْإِضْلَالِ، وَقَوْلُهُ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ إِلَخْ جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِأَعْدَائِكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ نَصِيرًا أَيْ: يَنْصُرُكُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
أَيْ: فَمِنْهُمَا تَارَةٌ أَمُوتُ فِيهَا إِلَخْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَتَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ هُوَ: إِمَالَتُهُ وَتَنْحِيَتُهُ عَنْهَا كَأَنْ يُزِيلُوهُ بِالْمَرَّةِ أَوْ يَضَعُوهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِمَوَاضِعِهِ: مَعَانِيهِ؛ كَأَنْ يُفَسِّرُوهُ بِغَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: التَّحْرِيفُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : تَأْوِيلُ الْقَوْلِ بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مُجَاحَدَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، إِذْ أَوَّلُوا وَلَا يَزَالُونَ يُئَوِّلُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ كَمَا يُئَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْمَسِيحِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ.
(ثَانِيهِمَا) : أَخْذُ كَلِمَةٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ وَوَضْعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا التَّشْوِيشِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ: خَلَطُوا فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مَا كُتِبَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُمْ بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّحْرِيفِ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَامِلَ عَلَى إِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَكَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عِنْدَ كِتَابَتِهِ كَأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُمْ قَرَاطِيسُ مُتَفَرِّقَةٌ، أَيْ بَعْدَ أَنْ فُقِدَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَرَادُوا أَنْ يُؤَلِّفُوا بَيْنَ الْمَوْجُودِ، فَجَاءَ فِيهِ ذَلِكَ الْخَلْطُ، وَهَذَا سَبَبُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرَارِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْعُلَمَاءُ تَحْرِيفَ كُتُبِ الْعَهْدِ
الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَفِي كِتَابِ ـ إِظْهَارِ الْحَقِّ ـ لِلشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ الْهِنْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مِائَةُ شَاهِدٍ عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَبْدِيلُ الْأَلْفَاظِ، وَزِيَادَتُهَا، وَنُقْصَانُهَا.
فَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى الزِّيَادَةِ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ " ٣٦: ٣١ وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا فِي الْأَرْضِ أَدْوَمُ قَبْلَ أَنْ مَلَكَ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ " وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ (شَاوُلُ) وَهُوَ بَعْدَ مُوسَى بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ وَنِصْفٍ، وَقَدْ قَالَ آدَمُ كِلَارَكْ أَحَدُ مُفَسِّرِي التَّوْرَاةِ: أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا قَرِيبًا مِنَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ [أَيْ مِنْ ٣٢ - ٣٩] ، كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَظَنَّ النَّاقِلُ أَنَّهَا جُزْءُ الْمَتْنِ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ.