وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَوَّلِينَ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْمُعَاصِرِينَ فِي الْجَزِيرَةِ وَسُورِيَّةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ تَحَرِّي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَلَّا يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ يَجْعَلُهُمَا سَوَاءً كَالْعَدْلَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْعَدْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; فَإِنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ
ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعَدْلِ، بَلِ الْعَدْلُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كُلُّ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ وَيَتَخَاصَمُونَ فِيهَا قَدْ بُيِّنَتْ أَحْكَامُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا بُيِّنَ فِيهِمَا كَانَ خَيْرَ عَوْنٍ عَلَى الْعَدْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَمَا لَمْ يُبَيَّنْ يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَتَحَرَّوْا فِيهِ الْمُسَاوَاةَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمُ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بَيَانُ مَا يَجِبُ مِنَ اتِّبَاعِ أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا حَكَمَا بِهِ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ فِيمَا لَمْ يَحْكُمَا بِهِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنَ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كَانَ لَا يُضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَأَلَّا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْوَاعُ الْأَمَانَةِ:
الْأَمَانَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ ; وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (٨: ٢٧) ، وَسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٢٣: ٨، ٧٠: ٣٢) ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَمَانَةَ الْعِلْمِ، وَأَمَانَةَ الْمَالِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ ثَلَاثًا:
(إِحْدَاهَا أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ) : وَهِيَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ حِفْظَهُ مِنَ الِائْتِمَارِ
بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute